راجل وسيد الرجال
الطيب الجوادي
عدتُ من المدرسة، فوجدته في انتظاري، بادرني بصوته الصارم الحادّ:
– “ماشي نا وأمّك للروحيّة باش نحضرو لعرس، باش تعسّ على الدار، وترد بالك ليغفّلكم الثعلب وياكل الدجاجات”.
كنت في السيزيام وقتها، واذكر اننا كنّا في اوّل الصيف، قبيل أيام قليلة من العطلة!
حاولت أن أستنجد بهنيّة، ولكنّها أفهمتني بنظرة منكسرة أنّها مغلوبة على أمرها وأنّه لا مناص لي أن أحرس المنزل حتى رجوعهما في اليوم الموالي ثمّ اقتربت مني، وهمست لي “رد بالك تبقى تلعب مع المنصف ونعيمة وتنسى باش تعس على الدجاجات والبقرة”، وبمجرد ان غادرا الدوار، أسرعت للمنصف ونعيمة ازفّ لهما الخبر السعيد : هنية وعمر غادرا الدوّار وبإمكاننا أن نلعب الورق وان نطبخ الشاي وان نفعل ما نشاء في بيتنا الطيني المسقوف بجذوع الأشجار.
ركب المنصف ولد عمي حماره إلى الفيلاج ليشتري لنا ما تحتاجه السهرة : ڤازوز سينالكو، وحلقوم وشريحة، وحلوى طحينية، وحيّ ينڤز، وباكو حلّوزي، وفي الأثناء أعلمتُ كل أطفال الدوّار أنّهم مدعوون لسهرة في بيتنا للصباح فلبّوا النداء جميعا، وكانت سهرة لا تنسى، دخنّا السجائر وطبخنا الشاي والتهمنا ما وصلت إليه أيادينا وشربنا السينالكو، ولعبنا القمار ورقصنا وغنّينا، ومع الثانية صباحا صرخ المنصف ولد عمّي فجأة : تفقدت الدجاجات؟
ونزل عليّ الخبر كالصاعقة وامسكت براسي، وهرعنا جميعا إلى القنّ لنجده نصف مفتوح وقد التهمت الثعالب نصف الدجاجات!
انفجرت عيناي دموعا ورحت ألطم وجهي وأصرخ: أبيْ غدوة يقتلني، غدوة يدفنّي حي،، لم ينطق أحد ببنت شفة بل انصرفوا جميعا إلى بيوتهم الدافئة ليتركوني اجابه مصيري وحيدا!
جفاني النوم، حتى الصباح، وامتنعت عن الذهاب إلى المدرسة وهيّأتُ نفسي “لطريحة نبّاش القبور” ورحت أتخيل أكثر السيناريوهات قتامة: هل سيكويني بالنار، او يجرجرني على الأرض حتى يدمى ظهري، او يذبحني بالسكّين، او يطردني من المنزل، او ،او
مع الساعة الثانية بعد الزوال تناهى لي هدير الكات الكات التي تقل ابي وأمّي، فطار قلبي شعاعا، ورحت ارتجف مثل قصبة في الريح واختبأت في زريبة الحمار، في انتظار ان يحلّ بي العقاب المنتظر.
سمعته يصرخ بأعلى صوته :
– اجري يا مرا، هاو شطر الدجاجات كلاهم الثعلب!
غام الكون من حولي، وتداخلت المسافات والأبعاد، وامتزجت الالوان والأشكال، واعترتني حالة من التبلّد وانعدام الوزن، وفقدت القدرة على التحكّم في نفسي وفي تقدير الأمور تقديرا سليما، فخرجت إليه وجابهته لاول مرّة في حياتي ونظرت في عينيه مباشرة وسمعت نفسي أقول له:
– بقيت نلعب، نسيت الدجاجات!
رمقني بنظرة تختزل كل حنق الدنيا، وهو لا يصدق نفسه، جرت هنية تحتضنني، وهي تنشج بصوت مرتفع، وتصرخ في وجهه:
– كان باش تقتلو، اقتلني معاه.
ولكنه، اكتفى بضرب كف بكف، ليصفعني بجملته التي حفرت عميقا في وجداني أشهرا طويلة:
– انت مشك راجل، وعمرك ما تولي راجل، ومستحيل نعمّل عليك.
قال ذلك وانصرف إلى الفيلاج.
حاولت هنيّة ان تقنعني انه نطق بتلك العبارة تحت تأثير الغضب، وانني “راجل وسيد الرجال” ولكني احتجت زمنا طويلا لأشفى نسبيا من الجرح العميق الذي خلفته شتيمته، وسنين طويلة لأكسب ثقته فيعوّل عليّ من جديد وتعود لي ثقتي بنفسي!