مقالات
عودة الربيع إلى المغرب
علي أنوزلا
حملت المسيرة الضخمة التي شهدتها مدينة الرباط يوم 11 يونيو / حزيران الماضي، تضامنا مع ما بات يعرف بـ “حراك الريف”، نفس شعارات حركة “20 فبراير” التي قادت الحراك الشعبي عام 2011، الذي كان بمثابة النسخة المغربية من “الربيع العربي”. فالمشاركون في المسيرة الذين خرجوا أصلا للتضامن مع سكان منطقة الريف في شمال المغرب المنتفضين منذ أزيد من سبعة أشهر، وللمطالبة بإطلاق سراح معتقليهم، حملوا معهم أيضا مطالبهم الخاصة والتي لخصوها في “إسقاط الفساد والاستبداد” و”إنهاء الحكرة”، وهي نفس الشعارات التي حملها الناس الذين تظاهروا بالآلاف عام 2011.
قبل ست سنوات عرفت السلطة في المغرب كيف تهدئ الشارع بواسطة وعود بإصلاحات سياسية مغرية، واشترت سلما اجتماعيا بثمن مكلف عبر زيادات رمزية في كتلة أجور الموظفين العموميين، وهو ما منحها فسحة من الوقت استمر ست سنوات لتجاوز تداعيات “الربيع العربي” المأساوية والتي دمرت أكثر من دولة وحطمت أكثر من نظام.
اليوم، تجد السلطة في المغرب نفسها، مرة أخرى، وجها لوجه أمام الشارع الغاضب. البداية كانت مع مقتل بائع السمك محسن فكري في مدينة الحسيمة (أقصى شمال المغرب) مفروما داخل شاحنة لنقل الأزبال، وبدأت الاحتجاجات للمطالبة بكشف الحقيقة حول ذلك القتل المأساوي ومحاسبة المسؤولين عنه، لكن أمام تماطل السلطة ومراوغاتها بدأت الاحتجاجات تتجذر وتتعمق حتى تحولت إلى حراك شعبي يرفع مطالب اجتماعية تتزايد يوما بعد يوم ويرتفع سقفها مع اتساع رقعتها.
وساهمت حالة الفراغ السياسي التي عاشها المغرب طيلة ستة أشهر خلال ما عرف إعلاميا في المغرب بـ “البلوكاج” أي حالة الانحباس السياسي الذي دخلها المغرب مباشرة بعد الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2016، بعدما عملت السلطة على عرقلة تولي عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق وأمين عام حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، الذي تصدر نتائج تلك الانتخابات، قيادة الحكومة لولاية ثانية.
لقد كانت سياسة إفراغ الانتخابات من مضمونها السياسي، وتعيين حكومة لا تشبه نتائج ما أفرزته صناديق الاقتراع، بمثابة ذخيرة حية زادت من شحن حالة الاحتقان الاجتماعي الذي كان يكبر مثل كرة ثلج تتدحرج من شمال المغرب، وأدى ذلك إلى فقدان ما تبقى من ثقة لدى المواطن في مؤسسات الدولة وأحزابها السياسية ونقاباتها العمالية فكان الشارع هو الفضاء الرحب الذي نزل إليه المحتجون لإسماع صوتهم بدون وسائط ورفع مطالبهم التي تزداد بلا سقف ولا حدود.
وبدلا من التعاطي بالعقل مع تدبير الاحتجاجات التي كان يمكن احتوائها في مكانها، لأنها كانت ترفع مطالب بسيطة تتمثل في بناء مستشفى وجامعة وتوفير مناصب شغل لعاطلي المدينة، اختارت السلطة في البداية سياسة المماطلة والتجاهل، وحتى عندما أرادت التجاوب مع بعض تلك المطالبة فعلت ذلك بكثير من الغطرسة التي منعتها من محاورة المحتجين، وفي الأخير عمدت إلى خيار المقاربة الأمنية التي أدخلتها في دوامة بلا نهاية.
لقد زجت السلطة في المغرب، أو على الأقل، الجناح المتشدد داخل السلطة الذي غَلَّب المقاربة الأمنية في التعاطي مع حراك شعبي سلمي يرفع مطالب اجتماعية محضة، بالدولة في مأزق خطير، وجعلتها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في تشديد القبضة الأمنية ومعها الزيادة في شحنة الغضب الاجتماعي الذي يتمدد مثل رقعة زيت على خارطة المغرب وعندها سيصعب احتوائه أو الالتفاف على مطالبه. أو الاستجابة لمطالب الحراك ونزع الفتيل قبل أن تصل النار إلى الحطب. أما الاستمرار في التعنت بدعوى الحفاظ على “هيبة” السلطة فلن يؤدي سوى إلى تمريغ هذه “الهيبة” تحت أقدام المحتجين الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم. هيبة الدولة قبل هيبة السلطة، وهيبة الدولة الحقيقية تكمن في احترامها للقانون وضمانها حماية حقوق مواطنيها وحرياتهم.
ما يشهده المغرب اليوم هو الموسم الثاني من “ربيع المغرب” الذي أُجهض عام 2011 عندما عرفت السلطة كيف تهدئ الشارع وتلتف حول مطالبه، مع فارق كبير، وهو أن الشارع اليوم أصبح أكثر وعيا وفقد كثيرا من ثقته في السلطة وأدواتها. في الموسم الأول من ربيعهم، نجح المحتجون في كسر حاجز الصمت وتجاوز حائط الخوف، وفي الموسم الثاني يراهنون على إسقاط الفساد والاستبداد، مطلبهم الأساسي الذي تحمله رياح كل موسم ربيعي تهب نسائمه على بلاد المغرب.
كل شيء يقول بأن ربيع المغرب عائد لا محالة: حجم المظاهرات، استمرار الاحتجاجات، توسع رقعة الغضب، تنامي نسبة الوعي، ارتفاع سقف المطالب، وضوح الرؤيا، اتساع الأفق، سقوط جدار الخوف، كسر حالة الصمت، فقدان الثقة في الوسائط والآليات، ارتباك السلطة، سوء التدبير وتخبط القرارات، اللجوء إلى القوة والمبالغة في استعمال العنف الشرعي وغير الشرعي، غياب الحوار واختفاء صوت العقل..
عام 2011 نجحت السلطة في احتواء غضب الشارع بوعود من الإصلاحات لم تؤتي أكلها والنتيجة هو ما يشهده المغرب اليوم، ومع موجة الربيع الجديد لن يكفي السلطة تقديم وعود جديدة، لأن لا أحد سيصدقها، وإنما عليها أن تأتي بأفعال على أرض الواقع تعيد الثقة إلى المحتجين في وعودها وتعهداتها. وغير ذلك سيكون مجرد استمرار نزيف الوقت الذي لن يزيد الشارع إلا احتقانا وحقدا يصعب احتوائه أو التنبؤ بعواقبه.
قبل ست سنوات عرفت السلطة في المغرب كيف تهدئ الشارع بواسطة وعود بإصلاحات سياسية مغرية، واشترت سلما اجتماعيا بثمن مكلف عبر زيادات رمزية في كتلة أجور الموظفين العموميين، وهو ما منحها فسحة من الوقت استمر ست سنوات لتجاوز تداعيات “الربيع العربي” المأساوية والتي دمرت أكثر من دولة وحطمت أكثر من نظام.
اليوم، تجد السلطة في المغرب نفسها، مرة أخرى، وجها لوجه أمام الشارع الغاضب. البداية كانت مع مقتل بائع السمك محسن فكري في مدينة الحسيمة (أقصى شمال المغرب) مفروما داخل شاحنة لنقل الأزبال، وبدأت الاحتجاجات للمطالبة بكشف الحقيقة حول ذلك القتل المأساوي ومحاسبة المسؤولين عنه، لكن أمام تماطل السلطة ومراوغاتها بدأت الاحتجاجات تتجذر وتتعمق حتى تحولت إلى حراك شعبي يرفع مطالب اجتماعية تتزايد يوما بعد يوم ويرتفع سقفها مع اتساع رقعتها.
وساهمت حالة الفراغ السياسي التي عاشها المغرب طيلة ستة أشهر خلال ما عرف إعلاميا في المغرب بـ “البلوكاج” أي حالة الانحباس السياسي الذي دخلها المغرب مباشرة بعد الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2016، بعدما عملت السلطة على عرقلة تولي عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق وأمين عام حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي، الذي تصدر نتائج تلك الانتخابات، قيادة الحكومة لولاية ثانية.
لقد كانت سياسة إفراغ الانتخابات من مضمونها السياسي، وتعيين حكومة لا تشبه نتائج ما أفرزته صناديق الاقتراع، بمثابة ذخيرة حية زادت من شحن حالة الاحتقان الاجتماعي الذي كان يكبر مثل كرة ثلج تتدحرج من شمال المغرب، وأدى ذلك إلى فقدان ما تبقى من ثقة لدى المواطن في مؤسسات الدولة وأحزابها السياسية ونقاباتها العمالية فكان الشارع هو الفضاء الرحب الذي نزل إليه المحتجون لإسماع صوتهم بدون وسائط ورفع مطالبهم التي تزداد بلا سقف ولا حدود.
وبدلا من التعاطي بالعقل مع تدبير الاحتجاجات التي كان يمكن احتوائها في مكانها، لأنها كانت ترفع مطالب بسيطة تتمثل في بناء مستشفى وجامعة وتوفير مناصب شغل لعاطلي المدينة، اختارت السلطة في البداية سياسة المماطلة والتجاهل، وحتى عندما أرادت التجاوب مع بعض تلك المطالبة فعلت ذلك بكثير من الغطرسة التي منعتها من محاورة المحتجين، وفي الأخير عمدت إلى خيار المقاربة الأمنية التي أدخلتها في دوامة بلا نهاية.
لقد زجت السلطة في المغرب، أو على الأقل، الجناح المتشدد داخل السلطة الذي غَلَّب المقاربة الأمنية في التعاطي مع حراك شعبي سلمي يرفع مطالب اجتماعية محضة، بالدولة في مأزق خطير، وجعلتها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في تشديد القبضة الأمنية ومعها الزيادة في شحنة الغضب الاجتماعي الذي يتمدد مثل رقعة زيت على خارطة المغرب وعندها سيصعب احتوائه أو الالتفاف على مطالبه. أو الاستجابة لمطالب الحراك ونزع الفتيل قبل أن تصل النار إلى الحطب. أما الاستمرار في التعنت بدعوى الحفاظ على “هيبة” السلطة فلن يؤدي سوى إلى تمريغ هذه “الهيبة” تحت أقدام المحتجين الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم. هيبة الدولة قبل هيبة السلطة، وهيبة الدولة الحقيقية تكمن في احترامها للقانون وضمانها حماية حقوق مواطنيها وحرياتهم.
ما يشهده المغرب اليوم هو الموسم الثاني من “ربيع المغرب” الذي أُجهض عام 2011 عندما عرفت السلطة كيف تهدئ الشارع وتلتف حول مطالبه، مع فارق كبير، وهو أن الشارع اليوم أصبح أكثر وعيا وفقد كثيرا من ثقته في السلطة وأدواتها. في الموسم الأول من ربيعهم، نجح المحتجون في كسر حاجز الصمت وتجاوز حائط الخوف، وفي الموسم الثاني يراهنون على إسقاط الفساد والاستبداد، مطلبهم الأساسي الذي تحمله رياح كل موسم ربيعي تهب نسائمه على بلاد المغرب.
كل شيء يقول بأن ربيع المغرب عائد لا محالة: حجم المظاهرات، استمرار الاحتجاجات، توسع رقعة الغضب، تنامي نسبة الوعي، ارتفاع سقف المطالب، وضوح الرؤيا، اتساع الأفق، سقوط جدار الخوف، كسر حالة الصمت، فقدان الثقة في الوسائط والآليات، ارتباك السلطة، سوء التدبير وتخبط القرارات، اللجوء إلى القوة والمبالغة في استعمال العنف الشرعي وغير الشرعي، غياب الحوار واختفاء صوت العقل..
عام 2011 نجحت السلطة في احتواء غضب الشارع بوعود من الإصلاحات لم تؤتي أكلها والنتيجة هو ما يشهده المغرب اليوم، ومع موجة الربيع الجديد لن يكفي السلطة تقديم وعود جديدة، لأن لا أحد سيصدقها، وإنما عليها أن تأتي بأفعال على أرض الواقع تعيد الثقة إلى المحتجين في وعودها وتعهداتها. وغير ذلك سيكون مجرد استمرار نزيف الوقت الذي لن يزيد الشارع إلا احتقانا وحقدا يصعب احتوائه أو التنبؤ بعواقبه.