مقدمّات للنّهضة (1) مأساة البقرة التّي تضحك
حسين السنوسي
1. المحيّر حقّا في أمر البقرة هو أنّها تظلّ تضحك حتّى وهي يفعل بها ما يفعل.
2. تبدأ النّهضة عندما تكفّ البقرة عن الضّحك وتصبح نطّاحة وحلوبا -كما في قصيدة أحمد فؤاد نجم-. تبدأ النّهضة عندما يسأل العربيّ نفسه “أيرضيك ما نحن فيه؟ أيرضيك ما أنت فيه؟”
3. النّهضة عمليّة نفسيّة أساسا. لا ينهض النّاس بألسنتهم وأيديهم ما لم ينهضوا بقلوبهم.
4. للنّهضة كيمياؤها التّي يجهد المؤرّخون أنفسهم لفهمها وموضوعنا في هذا الحديث المتواضع لا يتعلّق بهذه الكيمياء المعقّدة بل ببعض التّحوّلات التّي تحدثها في نفوس النّاس.
5. يحدث “شيء ما” في بلاد اليونان أوفي شبه جزيرة العرب وما جاورها أو في بقاع متفرّقة من العالم القديم أو في العالم الجديد فتتغيّر هذه البقاع ويتغيّر العالم من حولها. يحدث “شيء ما” فيقوم النّاس وينتشرون في الأرض فترى أعينهم مالم تكن تراه وتصنع أيديهم وعقولهم ما لم تكن قادرة على صنعه.
6. قد ينتجون الإلياذة والأوديسيا وفلسفة أرسطو ورياضيّات إقليدس وقد يخطون خطوات عملاقة في الرّياضيّات والكيمياء والقانون واللّسانيّات والتّاريخ وسائر العلوم وقد يخترعون الطّباعة ويجعلون من كنائسهم معرضا لفنون الرّسم والنّحت والمعمار وقد يغزون القمر ويخترعون الكمبيوتر والقنبلة الذّريّة.
7. النّاس -عامّتهم وصفوتهم- أداة النّهضة وصانعوها.
8. للكاتب الإيطالي آلبرتو مورافيا رواية عنوانها “الإنتباه” تتحدّث عن رجل قرّر يوما أن يكتب يوميّاته وبمجرّد أن بدأ الكتابة صار يرى في حياته الخاصّة وفي علاقاته بالآخرين أشياء لم يكن يراها.
9. حالة الإنتباه هذه أوّل ما يميّز النّاهض. النّاهض يرى في العالم وفي نفسه ما لا يرى غيره.
10. للنّاس منذ خلقوا يدان اثنتان في كلّ يد أصابع خمسة لم يتغيّر حجمها ولا مهارتها منذ صار الإنسان إنسانا. لماذا إذن أنجبت النّهضة الأوروبّيّة ميكالنجلو وليوناردو دافنسي ولم تنجب القرون الوسطى هناك إلّا باعة صكوك المغفرة والمفتّشون في ضمائر النّاس؟
11. للنّاس منذ خلقوا، دماغ لم يتغيّر حجمه ولا عدد خلاياه. لماذا إذن أنجب عصر التّدوين في تاريخ هذه الأمّة من العباقرة ما لم تنجبه القرون الخمسة الأخيرة؟
12. لا فرق بين يدين ويدين ولا بين دماغ ودماغ. إنّما الفرق بين الّذين يتلذّذون بالعيش بين الحفر والذّين يحبّون صعود الجبال.
13. ورد في لسان العرب “النُّهوضُ: البَراحُ من الموضع والقيامُ عنه” و”النَّهْضةُ: الطَّاقةُ والقوَّة”. و”انتهض القومُ وتناهَضوا نهَضُوا للقتال”.
14. العرب أمّة تتثاءب. كما يتثاءب المستيقظ بين نومين عميقين. للعرب قائمة طويلة من الأعداء تبدأ بالذّلّة والمسكنة التّي ضربت عليهم وتنتهي بأصحاب القبّعات السّوداء الجّاثمين على صدر “أورشليم”.
15. العرب يحتاجون إذن إلى نهوض ونهضة. إلى أن ينتهضوا ويتناهضوا. بل لعلّهم يحتاجون إلى ولادة جديدة: (رينسّانس) كما يسمّيها الأوروبّيّون. ألا يقرأ العرب قوله تعالى “إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ”. خلق جديد. عرب آخرون. يشبهوننا ويختلفون عنّا. يتميّزون بالإنتباه وبالرّغبة الجّامحة في صعود الجبال.
16. نعود إلى صورة البقرة التّي بدأنا بها هذا الحديث.
17. في سبعينيّات القرن الماضي سقط الرّئيس الأمريكيّ جيرالد فورد مرّة وهو ينزل سلّم الطّائرة. لاحظ الأمريكيّون أنّه عندما سقط كان يمضغ علكة (شوينغوم) فسخروا منه طويلا قائلين إنّه عاجز عن القيام بشيئين في نفس الوقت: نزول السّلّم ومضغ العلكة.
18. البقرة العربيّة ليس في وسعها أن تضحك وتصعد الجبل في ذات الآن.
19. ألم أقل لكم إنّ البقرة يجب أن تكفّ عن الضّحك وتصبح نطّاحة وحلوبا -كما في أغنية الشّيخ إمام.
20. للحديث شجون وبقيّة.