عن دولة ما دون الإنسان !
خولة بن صابر
لجنة حفظ الذاكرة الوطنية
لقاء الحرية يقدمه الأستاذ “عبد اللطيف العلوي” حول رواية الثقب الأسود: عن دولة ما دون الانسان! 12/06/2017
في إطار ما دأبت عليه لجنة حفظ الذاكرة الوطنية في عقد أنشطة في علاقة بالأعمال الإبداعية لضحايا الانتهاكات كتابة وتفاعلا وفي علاقة بالأنشطة الثقافية بشكل عام لهيئة الحقيقة والكرامة وتحديدا لجنة حفظ الذاكرة الوطنية نستضيف بيننا اليوم الأستاذ عبد اللطيف العلوي ليقدم لنا مداخلة بعنوان “عن دولة ما دون الانسان” من خلال تقديم روايته “الثقب الأسود” كما سيقدم لنا بعض الاضاءات فيما يتعلق بتجربته السجنية ليوثق بذلك ذاكرته الفردية والجماعية لانتهاكات حقوق الانسان في تونس.
لم يكن لديّ سبب واحد لأتّهم الدّولة بقتله، لكنّني لن أتّهم سواها
صرت أعرف أنّ الدّولة حين تقتل مواطنيها لا تترك أدلّة، وأنّها قاتل متسلسل غامض، يجوس منذ عشرات السّنين بخناجره وحباله وفؤوسه الملطّخة بالدّماء بين الأزقّة والشّوارع وفي القرى الغارقة في الضّباب…
صرت أعرف أنّها لا تحتاج في أغلب الأحيان إلى أن تطلق الرّصاص على ضحاياها، أو أن تنصب لهم المشانق، أو تعدمهم بالغاز أو بالكهرباء…
الدّولة المجرمة تقتل مواطنيها بالسّكّريّ، وضغط الدّم، والفقر والعجز وقلّة الحيلة، تقتلهم بالجهل والذّلّ واليأس والحزن البطيء، تدهسهم تحت عجلات حافلة جامحة أو قطار مجنون أو سيّارة شرطة ملعونة، وتقيّد الحادثة دائما ضدّ مجهول…
عندما كنت صغيرا، كنت دائما أسأل أمّي عن الموتى: أين يذهبون؟ فكانت تجيبني بأنّهم يذهبون بعيدا بعيدا وراء الجبل الكبير الجاثم خلف القرية…
اليوم مات أبي، كان يعرف أنّه ذاهب إلى هناك كما قالت أمّي… ولذلك جاءني من بعيد، من بعيد جدّا من وراء ذلك الجبل الّذي مازال جاثما خلف القرية…. ليشير إلى قاتله،
ثمّ يمضي…
الثقب الأسود ص 176
مَن يكتُب حكايته يَرِث أَرضَ الكلام، ويملُكِ المعنى تماما. محمود درويش
هكذا يصوغ محمود درويش حكايته فيرث ارض الكلام ويملك ارض المعنى فيكون للمبدع سلطة على التغيير من خلال اللغة وهكذا يروي لنا عبد اللطيف العلوي روايته الثقب الأسود ليزاوج بين جدلية التذكر والنسيان وبين مفارقة الموت والرحلة بلا عودة هكذا ارادت هذه الرواية نحت ملامح سياسة القمع واستبداد النظام وارتداد ذلك على الذات المتذكرة والعارفة بكل التفاصيل والقائمة على التقييم والحوار مع ذاتها ومع الاخر في مقاربة تكاد تكون فيها الذات ذواتا عديدة وأصوات متعددة يضمنها الروائي روايته فتنتج نصا ادبيا وجدليا يطرح الإشكاليات في محاكاة مع الواقع بكل تلويناته محاكاة قد تكون في الدرجة الصفر من الخطاب وقد تكون أيضا ضمن الدلالات الحافة وما تنتجه من تأويلات متباينة تدرك من خلالها عمق هذه المادة الروائية.
ان البحث عن الذات من خلال هذه الرواية يتجلى بوضوح من خلال شخوصها فالبناء الفني الذي اعتمده الكاتب يوحي بحبكة روائية جعلت من الراوي يتقمص دوره حينا ويتخفى وراء شخوصه حينا اخر ووراء هذا التخفي كان ينقل رؤاه ومواقفه وتلازم عالمه مع كل هذه العوالم التي جعل لها حيزا في فضائه الروائي ولعل ما يلفت انتباهنا في هذه الرواية هو تلازم الروايات وتعددها فتراك تتابع قصة تليها أخرى تضمينا وكأنك تتابع مسارات روائية خطابية متوازية في حين ان القضية واحدة ولكنها تطرح تعددا باختلاف وجهات النظر اليها فتراه يلازم بين عتامة الواقع الاجتماعي وبين قمع الواقع السياسي وهذا التواتر بينهما يولد وجودا بالقوة، هذا الوجود بالقوة هو وعي بالقمع وهو قمع مجسد على ارض الواقع ومعاش بكل تفاصيله مع ردود الفعل المتباينة.
ان أهمية الكتابة في مختلف الاجناس الأدبية وخاصة منها الرواية باعتبارها جنسا أدبيا نثريا حديثا متعدد الشخوص والأصوات والملفوظات الحوارية والتناصية وهو حامل لرسالة جديدة هي التعبير عن الواقع والانسان والأخر وهي سلاح لمناهضة الظلم والاستبداد والواقع المتردي والبحث من خلالها على واقع انساني مثالي تجسد فيه القيم و خاصة العدالة والحرية.
تندرج هذه الرواية ضمن ما اصطلح على تسميته بأدب السجون او أدب الحرية لنحول هذه الذاكرة السلبية الى ذاكرة إيجابية تحاول البحث عن ذاتها من خلال التطهر ذلك ان رواية الثقب الأسود على جدلية عنوانها فان عتبة العنوان تحيلنا الى شهادة ادانة شاهدة على قمع النظام وجرائمه في “بلد لا يغفر الأحلام” ومخافة أن يبتلع الثقب الأسود تلك الفاجعة التي حلت بأبطال الرواية كي “لا يهزمهم النسيان”.
فالدلالة الاصلية للثقب الأسود تحيلنا على امتداد في الفضاء لا تحدوه حدود اما دلالة اللون الأسود فتحيلنا الى العتمة والرحلة دون عودة او الموت واذ اضحى الثقب الأسود عنصرا من عناصر المشهد الحكائي فان الكاتب في صراع دائم مع الزمن فالثقب الأسود يلزمنا النسيان والموت ويبتلع كل شيء ولعل الدلالة الحافة تتجاوز هذا المعنى لتكون الكتابة سردا مقاوما للنسيان ولعل دلالة اعتماد تقنية الألوان و سيمائية دلالتها تحيلنا الى التقاء نصوص أخرى وهو ما يعرف بالتناص في جدلية تذكرنا برواية “الوجوه البيضاء” لإلياس خوري ذلك البطل خليل احمد خليل الذي ما ينبري يطلي الجدران باللون الأبيض عوضا عن الأسود ليمحو اثار الموت والخراب التي أحدثتها الحرب الاهلية اللبنانية على مدينة بيروت وهنا يحيلنا في رواية الثقب الأسود الى صراع دائم مع الزمن والذاكرة تلك الذاكرة التي تختزن في طياتها “الكوابيس المرعبة” التي جسدها النظام وهو على حد تعبير الكاتب دليل على “موت ذلك الأنا الأول الذي كان يسمى مواطنا صالحا في سجلات الحكومة اليوم أصبحت مجرما بأوراق رسمية” (ص 53 الثقب الأسود).
هي رواية لإعادة المأساة بشكل متواز و بالعرض البطيء كما ضمنها الكاتب في عتبة الاهداء حيث عبر عنها من خلال عالمين عالم داخل السجن وعالم خارجه حيث صور شخوصه وهي تعيش حالة الضحية ضحية من ضحايا الدولة فهي بالتالي موجود بالقوة في صنف “مناضل سياسي” رغم انف الدولة التي قمعته كما جسَد العلوي المفارقة والجدلية بين الواقع والخيال او الحلم فالواقع تتملكه “استراتيجية الرعب وهي اول ما تحتاجه الأنظمة المستبدة لتقضي على كل نفس معارض أو يهدد بأن يكون معارضا” والخيال يمحى وتطمس ملامحه “فالوطن ليس قبعة شرطي” وبين قهر الدولة لمواطنيها وبين بساطة ضحاياها ومعاناتهم اليومية تتخذ شخوص الرواية لنفسها فضاء روائيا وحركة دلالية لتعبر عن هذه المعاناة ولتنبش الذاكرة في كل مراحلها كما تطرح تساؤلات عديدة في علاقة بهذا القمع الذي تمارسه الدولة وتكتشفه الشخوص تبعا وهو ما عبرت عنه شخصية خالد الشرفي فيقول “لماذا تتخذني الدولة عدوا لها ؟ وبماذا تتهمني؟” ص 87 وهنا يدرك أيضا عبثية وجوده وما كان يتعلمه في هذه الدولة فيقر بذلك متحسرا: “أنا الذي دهسته عجلات النظام وجعلت مني بطلا في عيون البعض وشيطانا في عيون آخرين وأنا شبه مواطن غلبان لم يفعل سوى ما تعلمه يوما في مدارس هذه الدولة الفاجرة: أن يؤدي الأمانة إلى أهلها” وهنا تحول خالد الى مناضل رغم انفه فهو انسان بسيط لا يربطه شيء بهذه الدولة سوى “بطاقة التعريف القومية والأداءات ونشرة أخبار الثامنة” ان هذا العالم فرض عليه ليحوله مجرما معارضا لدولة قامعة تقتل مواطنيها قمعا وظلما “هل سيفهم الناس سر كآبتي وحركاتي الثقيلة الباردة؟ هل سيعرفون أنني أحمل في أعماق روحي حجرا بحجم البلاد التي غربتني وجعلتني مجرما؟” ص 98.
ويواصل الكاتب تشكيل ملامح شخوصه وفقا ما يقتضيه عالمه الروائي وتبرز مع كل شخصية ملامح مقاومتها للنظام وجرائمه «فالدولة لا تحمي مواطنيها الصالحين بقدر حمايتها للمنحرفين المفسدين“.
ان أهمية التجربة الروائية تكمن في القدرة على تحويلها من واقع مرجعي ملموس ومعاش الى واقع تخييلي يصاغ سردا وكتابة لتتشكل على إثرها ما يسميها بول ريكور “الهوية السردية” حيث تقوم الذات بعملية تفريغ تطرح فيها كل الأسئلة التي تخمرت اثناء التجربة علنا نجد لها أجوبة.
ان خصوصية هذه التجربة الروائية التي خطها الكاتب عبد اللطيف العلوي تكمن في فرادتها وتميزها من حيث انها تطرح فيها مقاربة مختلفة جمعت بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية وهي مقاربة أدبية فنية اختلفت عن مقاربات أدب الحرية في متونها الروائية والتي عادة ما اتّسمت بالانا المثقلة بالجراح والالام والتي تبكي ماضيها وحاضرها وقد توغل في الإحساس بصفة الضحية هي ذات مستلبة رغم ما تلتزمه من موضوعية في نقل تفاصيل الحياة السجنية بكل تفاصيلها الا ان اختلاف وجهة النظر يلزم الكاتب واناه اتخاذ منحى مخالف في الكتابة وكأن بكاتبنا وعى هذا التواتر الموجود في الكتابات الروائية التي وثقت لانتهاكات حقوق الانسان والتي صنفت ضمن ادب السجون كما أن للسجون خصوصيتها ولكل ذات عايشت هذه التجربة رؤيتها الخاصة بها وطريقة تمثلها لهذه التجربة واثر ارتدادها على اناها فلكل فضاء عالم خاص به يستوجب الزاما قراءة تأويلية قد تختلف حينا وقد تتقاطع مع غيرها حينا اخر.
ان تحويل الذاكرة السلبية الى ذاكرة إيجابية تستوجب حتما الاستيعاب الواعي والمفيد لهذه التجربة فتكون معاناة الضحية التي رامت التغيير من خلال قضية أو من أجل فكرة ودون استعمال العنف والمحظور فالألم موجود والامل أيضا موجود والرحلة مع الذات تنطلق من ذلك الفضاء لتخرج منه من الجانب الذاتي الضيق الى الجانب الإنساني العام.
يكون البحث عن الحقيقة هو الرابط الأساسي والتيمة المحورية لكل من الادب والذاكرة والعدالة الانتقالية ذلك ان هذه العدالة الانتقالية هي عدالة مؤقتة ومحددة زمنيا وهي عدالة مخصوصة متخصصة في مسارها وفي الياتها، هي عدالة جاءت لتكون كمضاد حيوي لعدالة دائمة عجزت عن معالجة ماضي الانتهاكات وهضم منظومة حقوق الانسان واستيعاب كل الحريات والحقوق وخاصة الحقوق الثقافية ولعل نشر هذه الثقافة بما هي طريقة للتعامل مع الماضي في اطار الانتقال من حالة ديكتاتورية الى حالة ديمقراطية هو من اهم سياقات هذه العدالة التي تعتبر ترميما واصلاحا لما وقع في الماضي.
فالأدب يقترن بالسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والحقوقية التي تهم الانسان وهو غير معزول عن المجتمع وعن الافراد وعن الجماعات وحتى التوجهات الفكرية وبما ان الادب والعدالة بما هي قيمة إنسانية ومثل عليا يلتقيان في مسار البحث عن حقيقة واسعة النطاق ومتعددة المنظورات لكون الحقيقة متعددة ومبنية على الحوار والتفاعل ذلك ان التقاء الذاكرات من شانه ان تؤسس لذاكرة وهوية مشتركة ترضي كل الأطراف ولا تكون موضع تنازع واختلاف لنشر قيم المواطنة والمصالحة.
ان الادب شريك أساسي في سياقات العدالة الانتقالية حيث ان تحويل الذاكرات الى أدب والى سرد يدون ويوثق ويطرح عدة إشكاليات لمزيد التفاعل والتفكر في دور الادب في تحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة فان النص الادبي أداة تحفيز ومعرفة ومقاومة لكل اشكال الانتهاكات التي نحاول من خلال تدوينها وإخراجها من ذاكرة سلبية الى ذاكرة إيجابية تحول دون تكرار تلك الانتهاكات.
مختصة في الآداب