عبد الحميد الجلاصي
نشرت منذ ايام قليلة مقالا على صفحتي بعنوان “يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم”.
وقد لقي المقال اهتماما من متابعي الصفحة وأصدقائها، وأثار بعض النقاش، بما يدل اننا امام قضية حقيقية، هي قضية الإصلاح الديني الشامل في المضامين وافق القراءة والخطاب والمؤسسات.
فيما يلي مقتطف من مقال طويل بصدد الإعداد نرجو ان يساهم في تحريك السواكن في شهر التأمل والعمل.
“…لا نملك ونحن نلاحظ ارتباك المشهد الديني أمام ما يحصل في خليجنا الا ان نستحضر تفاعل الفضاء الديني المنظم مع معاهدة كامب ديفيد، وتفاعله مع حراك الشارع في أوج الربيع العربي، وتموقعه خلال وبعد الانقلاب العسكري في مصر.
نتذكر ان الحالة الدينية شهدت عملية اعادة صياغة واسعة وسط التسعينات تفاعلا مع حاجيات السياسة، وايضا مع التطورات التكنولوجية المتسارعة لتوفير “بضاعة دينية” تتكيف مع الطلبات الجديدة وتعيد من خلالها صياغة الساحة الدينية إجمالا.
• ظهر تدين موجه للفقراء، أبطاله مشائخ خرجوا لتوهم من رفوف التاريخ، يقلدون اصولا في المظهر والحديث والاهتمامات. مع الفرق المعلوم بين الأصول التي كانت قريبة من عصرها، والنسخ التي تعيش خارج عصرها تماما، بضاعتها الإيهام بالقداسة، ورسالتها الاساسية ان هذه الحياة عبء يجب التخلص منه، والتهيؤ منذ المولد للآخرة. “ورزقك ورزقي ورزق الكلاب، دا موضوع مؤجل ليوم الحساب” (أحمد فؤاد نجم /الشيخ امام).
هذه الحياة العبء يجب ان نَفَر منها، ونتركها. لمن ؟ لا يهم. دع الفتن تصيب غيرنا.
جمهور المتلقين ليس له بالفعل من حظ في هذه الدنيا، فيسحب الى دائرة التدين الفردي، وتضخم له قضايا الآداب والاخلاق الفردية وجزئيات الفقه، فيتوهم حصول علم، ويحقق توازنه، ويتعايش مع ظلم العالم باعتباره قدرا، او يحوّله استعلاء على “متاع الدنيا الزائل”، ولعله يشفق، بفعل التنويم والترويض، على الغارقين في هذا المتاع الزائل.
وهكذا تمحى من جهاز متابعته قضايا الثورة والحرية وتوزيع السلطة والكرامة. بل قد يزين له حيازة كرامة الاخرة قدر الفتنة والحرمان في الدنيا.
وليس على الجمهور إن تخلص مشائخه من متاع الدنيا، رغم ان كل الدلائل تشير لعكس ذلك، فليس مطلوبا فهم كل شيء، بل المطلوب التماس الاعذار لاخواننا، فما بالك بمشائخنا.
وبالنتيجة ينكفيء الضمير الديني في الذاتي ويلغي من اهتمامه كل ما يتعلق بالشأن العام. ولذلك ليس غريبا ان يكون هذا الجمهور المتدين زاهدا في العملية الانتخابية.
هذه هي العلمانية الناعمة، علمانية معاشة دون كثير تنظير ودون مصادمة للضمير الديني. وربما تكون أكبر الجماعات علمانية، من داخل الممارسة الدينية، الجماعات الصوفية وجماعة التبليغ التي تسحب منتسبيها الى عالم الكرامات والرؤى بديلا عن عذابات هذا العالم القاسي.
• وظهر تدين الطبقة للطبقة الوسطى وما فوقها، تدين التنمية البشرية. البضاعة هنا مختلفة نظرا لاختلاف طبيعة المستهلكين الذي يتوفر لديهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وربما مع قدر من السعة. المصالحة هنا تكون مع مجتمع الاستهلاك، يجب تقديم تبرير ديني لما يعيشه الناس فعلا، ما يسميه بعض الظرفاء الحلال والحلال في الاسلام.
المشائخ هنا من صنف اخر. انهم الدعاة الجدد. بدلات وربطات عنق أنيقة، او لباس رياضي مناسب لايام العطل، وأسلوب مغاير في التواصل. إنه تدين ما يطلبه المستمعون، او ما أسماه احد الباحثين “اسلام السوق”.
ولكنه ايضا يبتعد عن قضايا “وجع الدماغ”.وهكذا يصبح عدد من مسوقي البضاعة الدينية، وبقطع النظر عن نواياهم، أدوت تنويم وترويض وضبط اجتماعي وسياسي…”.