أحداث العنف بين بشني والجرسين بقبلي: عندما تغيب الدولة يحضر الشيطان
قبل التسرع في نسبة العنف الجماعي المتبادل فجأة بين اهالي بعض قرى ولاية قبلي وغيرها، الى التخلف وغياب الوعي علينا ان نسأل انفسنا :
كيف يأتي هذا السلوك المتخلف والمنحط والاجرامي من مواطنين قد تيقنا من صفاء معدنهم ورفعة اخلاقهم وسموّ روح وطنيتهم وتضامنهم وتآزرهم وصبرهم ؟
هذا هو السؤال الكبير والمهم ؟ ماهي الاسباب الحقيقية ؟
سنحاول من خلال استعراض تفاصيل وقائع احداث تبادل العنف الجماعي بين اهالي قريتي بشني والجرسين استبيان ركن من الاركان المهمة التي تؤسس لهذا التدهور الفضيع، ولا يمكن تجاهل اسباب او محفزات اخرى لن نركز عليها لانها متداولة وتعيد بسطحية تكرار مقولات انطباعية مثل غياب الوعي والمدنية والتحضر والتخلف، وهذا امر لا مجال لانكاره، ولكن ما هي الاسباب العميقة والهيكلية، لانه مهما ارتقت درجات الوعي والاخلاق، فان وضعية دخيلة قد تعصف بهذا الوعي، مثلا، اتركوا باب مغازة كبرى في ارقى الاحياء المتحضرة بدون حراسة مدة ربع ساعة فقط، فسترون ان المتحضرين المسالمين سيتحولون تدريجيا الى لصوص وعدد كبير منهم لن يصمد وعيه تجاه هبة نهب جماعي (مبررة)…
ببساطة، علينا ان ندرك ان القيم والاعراف المتحكمة في الافراد وخاصة المجموعات تختل بسرعة اذا غابت سلطة التنظيم وقوّة النفوذ الرمزي والمادي للدولة او غيرها، خاصة بعد أن فرضت الدولة نفسها بديلا يرتكز على العنف المشروع والمباشر وغالبا ما يستند الى تسلط قمعي مطلق وغير قابل للطعن، وقد تعمّدت الدولة منذ اكثر من قرن الى الغاء رموز السلطة التقليدية قبلية كانت او دينية، فاحتكرت النفوذ وآليات التحكيم والردع فماذا عساه يحصل اذا اختارت الغياب فجأت، سنكون تجاه قضية (اهمال عيال).
ان سلامة ونقاء المنظومة القيمية والاخلاقية غير كافية للوقاية من اوضاع مرضية تبدو مفاجئة ولكنها تحصل نتيجة اهمال وتقصير تنظيمي تمثله الدولة وتتخلى عنه لغياب المصلحة والحافز ودوافع تجنب الضرر.
ففي مثل هذه المناطق الصحراوية النائية لا توجد منشآت مهمة للدولة تخشى على خرابها، ولا توجد منشآت خاصة ذات اهمية تخشى تخريبها، مثل المصانع والمتاجر والبنيات والبنوك والادارات. كما لا يوجد للدولة على هذه الارض من رجالاتها ذوي الاعتبار من مسؤولين واطارات او سبياسيين فتخشى على سلامتهم.
ان الجسم السليم اذا اهملناه ولم نتدخل في الوقت المناسب لرعايته وعلاجه يمكن ان يستفحل داؤه ونجد انفسنا امام اورام خبيثة، فما بالك بحالة المجموعات والافراد الذين هم في الغالب نتاج لواقع وتأثيرات…
باختصار ساستعرض تفاصيل الوقائع الدامية انطلاقا من مثال الاحداث الاخيرة بين قريتي بشني والجرسين من ولاية قبلي والتي ادت الى احداث جماعية منظمة بين الاهالي والاخوة الاشقاء.
نحتاج لاستعراض الرقائع بدقة في قضية الحال :
1. الدولة الغائبة او المغيبة تخلف الخراب :
لا توجد خصومة حقيقية حول الاراضي بين القريتين، معلوم ان سبخة (شط) تفصلهما وهي لا تصلح لا للزرع ولا للحرث ولا للعمران، وحتى ان وجدت بعض الخلافات السابقة على الحدود فانها لم ترتقي حتى الى العنف اللفظي.
حصل اختلاف على مسار تعبيد طريق يربط بشني بالطريق الجهوية العابرة الى قرية نويل و لم تكن مشكلة خلافية كبرى، هي طريق مبرمجة تقرر الشروع في انجاز اشغالها بعد استكمال الدراسات باشراف الادارة الجهوية للتجهيز والمجلس الجهوي وهذا يعني ان مسارها مسطر ومحدد بدقة مليمترية ،فكيف سمحت الدولة بنقاش عشوائي غير مؤطر حول تعديل مسارها وقد حصل هذا النقاش بتدخل بعض اهالي الجرسين وممثل عن مجلس تصرف غريب ومقره الفوار (وليس بشني باعتبار بشني تابعة له) ومعلوم ان هذا المجلس يشرف عليه رئيس مجلس الوصاية المحلي (معتمد الفوار) ورئيس مجلس الوصاية الجهوي (الوالي).
تدخل نفر من الافراد بعنجهية يناقشون مسار الطريق المزمع تعبيده، وذلك بغياب تام للدولة صاحبة المشروع ولو وجدت الدولة لوضعت حدا للخلاف منذ البداية، في اثناء نقاش غير منظم في جو متوتر حول مسار الطريق الذي خيل اليهم انه سيعيد رسم الحدود الترابية بين مجلسي تصرّف والخلاف على بضعة امتار في سبخة (شط)، انتقل الامر الى شجار بين بعض الشبان توقف الامر عند هذا الحد دون اية تدخل للدولة، وانصرف الجميع، بعد سويعات قليلة اعترض عدد من الشبان سيارة احد سكان بشني متجهة ورموها بالحجارة اعترضوا سيارة نقل ريفي لصاحبها البشناوي ففرّ بسيارته الى اهله في بشني مستغيثا وطالبا ردّ العدوان، ولم تتدخل الدولة ولا الامن ولا القضاء، حدثت المعركة الاولى وكان عدد الجرحى حوالي العشرة من الجانبين وتم نقلهم الى المستشفى الجهوي ومستشفى الفوار، واصبح الحدث يتصدر نشرات الاخبار وتقرير الوالي والامنيين والعسكريين، واكتفت السلطة بمتابعة محتشمة، من خلال جلسة بمكتب الوالي بحضور افراد من المنطقتين ثبت في ما بعد عدم فاعليتهم، “بوسو بعضكم” “وسنحل مشكلة الطريق بعد العيد” باشراف السيد الوالي والمجلس الجهوي الامني، وتداول بعض المدنيين نقاشات باذاعة نفزاوة وحديث عابر بالمقاهي والفايس بوك…
2. مسؤولية الدولة المتخلية تتعاظم
بلغت السلطة والجهات الامنية تحذيرات صريحة حول امكانية حصول كارثة وتم لفت انتباهها الى وجود تعبئة علنية ونفير لحرب بين القريتين يتم عبر استنصار اطراف القبيلة في قرى مجاورة، وهذا امر تم تداوله في مواقع الاتصال الاجتماعي كما وجهت شخصيات اعتبارية بالجهة نداءات الى السلطة للتدخل العاجل قبل فوات الاوان، بعد ان بدا ان النفوس هدأت، شرع في اعلان النفير لمعركة دموية حاسمة، وامتدت التعبئة العلنية ثلاثة ايام كاملة في ارجاء قرى معتمديتي الفوار ورجيم معتوق وجزء من معتمدية قبلي الجنوبية، يعدون ما استطاعوا من حجارة وعصي وبنادق وسيوف وعربات، ويحدث هذا امام مرأى الجميع استعدادا لمعركة: في الفوار وغيدمة والرجيم والدرجين وبشني وحزوة ونفطة والمتلوي والجرسين والكليبية والقطعاية واماكن اخرى، حدث كل هذا امام مرأى ومسمع الدولة بمعتمديها وواليها واجهزتها الامنية واعيانها ومجتمعها المدني ولم تحرك ساكنا ولم يتم حتى ايقاف تحفظي للمعتدين في المعركة الدموية الاولى رغم جسامة الاضرار.
3. معركة الحسم امام جمهور الامن محدود العدد
بداية من الثالثة صباحا، وبحضور عدد محدود من الامنيين، العشرات من اهالي الجرسين حشدوا الحشود مدججين بالعصي والبنادق والعربات لما بلغهم منذ يومين خبر استعدادات اهالي بشني ومناصريهم وقدومهم اليهم للاعتداء، وحشد بشني وانصارها شرعوا في قطع مسافة سبعة كلمترات متجهين الى ساحة المعركة. في ساحة منبسطة مكشوفة وعند الساعة السابعة صباحا دقّت ساعة الصفر ولم يتدخل الامن لمنعهم، كما لم يتدخل لتفريق اهالي الجرسين قبل قدوم خصومهم، ولم يعترض اهالي بشني وهم يقطعون سبعة كلمترات سيرا على الاقدام، تدخل الامن بعد ان حصل المكروه وبعد ان انتهت المعركة وباحتشام ودون تأثير…
والحصيلة 70 جريحا قابلة للزيادة في كل حين، بعضهم مصاب بالعصي والحجارة وبعضهم بالرّش وواحد بخرطوشة، والحصيلة الاكبر ما ستخلفه هذه الاحداث من ضغاين وعداوات واحقاد وقطع للارحام بين الاخوة،
وفي الخلاصة، كان بامكان السلط الجهوية والامنية ان تكون اكثر صرامة ونجاعة، كان لا بد من ايقاف عدد من المتسببين في المعركة الاولى، وكان بامكان التدخل الامني الحيلولة دون الكارثة الاخيرة، فاما ان تنتهي اسباب مثل هذه المعارك المنحرفة واما ان تنتهي الدولة.