عن قطر… والآخرين
محمد كريشان
«إنه الأسلوب العربي!!»… لم يجد الدكتور إبراهيم فريحات أستاذ النزاعات الدولية الذي عمل في مراكز بحثية عالمية مرموقة من وصف آخر لما أعلنته دول خليجية ثلاث هي السعودية والإمارات والبحرين، ومعها مصر وآخرون، من قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وإغلاق كل المنافذ البرية والبحرية والجوية معها والطلب من القطريين المقيمين على أراضيها أو الزائرين المغادرة خلال أجل أقصاه أسبوعان والطلب من مواطنيهم المقيمين أو الزائرين إلى قطر العودة.
قالها مع ابتسامة… لأنه لا يعتقد أن قرارات صادمة وقاسية كهذه يمكن أن تصدر هكذا دفعة واحدة في أي خلاف بين دول جارة، فما بالك أن يكون هناك إطار سياسي يجمعهم منذ 1981 إسمه «مجلس التعاون الخليجي» مما يشكل، من الناحية الأكاديمية البحتة، حالة فريدة تستحق الدراسة.
القضية هنا ليست قطر، و ما إذا كانت سياساتها مقبولة أم لا، فهذه دولة لها في النهاية توجهاتها الداخلية أو الخارجية التي يمكن لأي كان أن يشاطر بعضها، و يتحفظ أو يرفض بعضها الآخر، ففي السياسة لا توجد دولة عسل أو دولة علقم. الأمور نسبية و تتوقف على أي أرضية يقف صاحب الرأي منها، و ما هي مصالحه وحساباته أو ارتباطاته أو حتى عواطفه وانفعالاته، المعقول منها نسبيا أو المزاجي المنفلت.
القضية هنا مختلفة، القضية هي عندما تأتي دولة، أيا كانت، لتشيطن دولة أخرى، أيا كانت، ثم تنبري لتقول لها أن عليها أن تفعل كذا وكذا… وأن يكون موقفها من هذه القضية كذا وكذا… وأن تقبل على أراضيها زيدا أو تطرد منها عمرو… وأن تبني علاقاتها مع هذه الدولة أو هذه الحركة على هذا الأساس أو ذاك. وإن لم تفعلي، فستبوء بغضبي المصحوب بالويل والثبور وعظائم الأمور!!.
هذا منطق لا تقبله أي دولة، ولا حتى «دويلة» كما يتلذذ البعض بوصف قطر، فأي وصاية كهذه مرفوضة بالتأكيد، حتى وإن جاءت من أشقاء، بل وحتى إن كان من بينهم «شقيق كبير». هناك حد أدنى من الكرامة والسيادة الوطنية تتمسك به كل الدول في هذا العالم كبيرها وصغيرها على حد سواء. لا دولة من دول العالم، التي يتجاوز عددها المائتين، ترضى ذلك لنفسها. حتى الدولة التابعة، أو المصادر قرارها، أو حتى المحتلة لا تقبل لي الذراع أو الإهانة بهذا الشكل.
المسألة الأخرى التي تجعل من حال الأزمة الراهنة فعلا حالة «عربية» بامتياز، أن ما جرى بين هذه الدول وقطر لم يشهد في الأسابيع الماضية أي مقدمات جدية تبرر ما حدث لاحقا، من قبيل إشارات هنا أو تلميحات هناك أو حتى تهديدات من مسؤولين كبار، ذلك أن هذه الأزمة اندلعت فجأة بـــ «قصف إعلامي» مكثف ومتواصل، فيما التزم السياسيون الصمت، لكنهم قرروا استعمال مختلف وسائل إعلامهم «منصات لإطلاق الصواريخ»، وأن يحولوا كتابا وجامعيين وباحثين ورؤساء تحرير إلى «ضباط» يتحركون بأوامر عليا ويتوقفون بمثلها. هذا محزن ومعيب… لكنه «الأسلوب العربي»…
ليس واقعيا ولا مطلوبا أن تتوافق مواقف الدول جميعها من كل القضايا جميعها، حتى وإن كانت هذه الدول جيرانا أو يجمعهم هيكل سياسي واحد، فهل كل الدول الأوروبية على قلب رجل واحد في كل القضايا؟! وهل حلف «الناتو» بعظمته وصرامته العسكرية فرض على كل أعضائه أن يكون كورالا موسيقيا للأطفال يلتزم بالمقام نفسه والنوتة نفسها بلا لحن ولا نشاز؟!!
لدولة قطر سياساتها الخاصة، أما أن تعجبنا أو لا تعجبنا… أن تكون محل تقدير أو استهجان… أن تكون حكيمة أو رعناء… فتلك قصة أخرى. وبناء على تقييم أي دولة لمثل هذه السياسات تـُـبنى العلاقات فتكون دافئة أو باردة. في المقابل، لا يجوز أن تلام أي دولة اختارت أن تكون في تناغم مع الدوحة أو في تنافر أو حتى في عداء.. هذا قرارها ولا أحد ينازعها فيه. حتى خلال سنوات الحرب الباردة تعايشت الدولتان الأعظم، الولايات المتحدة وروسيا، ومن يقف وراء كل منهما بحد أدنى من «الأصول» في العلاقات الدولية حتى وإن استمر الضرب تحت الحزام بلا هوادة.
أما «أطرف» ما في «الأسلوب العربي» إياه فهو تكرار القول إن «خلافنا هو مع النظام.. أما الشعب فشقيق وله منا كل المحبة والتقدير»… مع أن المتضرر الأساسي من كل الإجراءات المتخذة مؤخرا هم الناس العاديون، سواء كانوا من القطريين او من الذين يعيشون بينهم، عربا وأجانب، وعددهم يفوق المليونين. أكثر من ذلك، من المتضررين كذلك مواطنو الدول التي اتخذت هذه الإجراءات ضد قطر. قل لي… في أي مكان في العالم تطلب دولة ما من مواطنيها في دولة أخرى الاستقالة فورا من أعمالهم و العودة سريعا إلى الوطن لمجرد وجود خلاف سياسي بين الدولتين؟ أين يحصل هذا؟
القدس العربي