جذور الصراع القطري السعودي-الإماراتي
أحمد الغيلوفي
سال ذات يوم الصحافي احمد منصور محمد حسنين هيكل “استاذنا، لماذا تُساند قطر الثورات العربية؟” قال له هيكل مُبتسما، بعد ان داعب انفه بسبّابته “يا ابني التاريخ والجغرافيا..” ثم دخل في استطراداته المعهودة ولم يعد الي السؤال. وبالفعل من لا يقرا التاريخ ولا ينتبه الي الجغرافيا لا يفهم السياسة..
كانت عائلة ال خليفة قبيلة جائلة في الصحراء، قادتها رحلة “العتوب” الكبرى من نجد سنة 1666 الي البصرة ثم الي الكويت سنة 1910. غير ان خلافهم الشهير مع اسرة آل الصباح قد دفع بهم مرة اخرى الي الرحيل الي الجزر البحرينية. ثم نشب خلافا ثانيا متعلقا بالزكاة التي كانت تدفعها القبائل القطرية الي السلطة السلفية في نجد قد دفعها مرة اخرى الي الرحيل لتستقر في منطقة “الزبارة” شمال ما يعرف الان بقطر. وقد ضل هذا الخلاف ماثلا الى الان في العلاقات السعودية-القطرية-البحرينية. فهو يتمحور حول وصاية نجد السياسية والدينية وهو امر يقبله البحرينيون ويرفضه ال ثاني وهذا يفسر لنا لماذا سارعت السعودية في ارسال “درع الجزيرة” لحماية العائلة المالكة هناك، بينما تتمترس قطر وراء قاعدة السيلية. كما يفسر لنا الحاح قطر في ان تكون الدوحة عاصمة للاسلام السلفي. هذا الخلاف “الزكوي” نفسه وما فيه من تمرد ال ثاني على وصاية السعودية السياسية والدينية هو ما يفسر لنا ايضا القضم السعودي الدائم لاراضي قطر واخره حادث “الخفوس” سنة 1992 وهو امر لم تجد له قطر اي حيلة الا ان تقدم سنة 2002 على تقديم تنازلات لا يعلمها الا الله وبوش الاب حتى يتحول مقر القيادة الوسطى للجيش الامريكي من السعودية الي قطر. وكفى العم سام الخليجيين شر القتال.
عندما حدث الانقلاب السلطوي في عام 1995 لم تعلن اية دولة خليجية تاييدها لهذا التغيير كما لم يتلق امير الدوحة الجديد اية تهاني من اية دولة عربية باستثناء المملكة الاردنية الهاشمية ايام الملك حسين وهو امر لا يفسر الا بالخلاف التاريخي بين الاسرة الهاشمية وال سعود. لم تتردد العواصم الخليجية ومعها بقية العواصم العربية في استقبال الشيخ المخلوع استقبالا رسميا في رمزية تعبر عن دعمها له في جهوده للعودة الي الحكم. وبالفعل ففي ليلة عيد الاضحى وبعد سنة من انقلاب الابن على الاب احبطت الحكومة الجديدة محاولة انقلابية منسوبة للشيخ خليفة بن حمد قادها طابور خامس من مؤيديه واستعين فيها بخبير متفجرات فرنسي. احبط الانقلاب ولكنه شكل منعرجا حاسما في السياسة القطرية التي بدات بحملة اعلامية تتهم فيها كل العواصم التي استقبلت الاب المخلوع بالضلوع في محاولة الانقلاب ومنها مصر والسعودية وتونس والامارات. في هذا الجو المحموم والمشحون بالاتهامات صرح الشيخ زايد بن سلطان ال نهيان بان “سكان قطر لا يتجاوز نزلاء فندق” وهو ما يعطينا انطباعا عن مدى استصغار الخليجيين لوزن قطر كما ان تصريح عمرو موسى ايام كان وزيرا للخارجية بان بلاده لم تستشر في الانقلاب الذي قام به الامير الجديد لذلك هي لا تؤيده وهو ما يعطينا فكرة عن حجم التدخل العربي في الشان القطري.
لقد كان القطريون على وعي حاد بان دولتهم في طريقها الي الذوبان سواء بالقضم السعودي والبحريني او بخذلان كل الانظمة العربية لها في نزاعاتها الحدودية وكذلك تنكر القانون الدولي لها حيث قضى سنة 1992 بحق البحرين في ضم جزر “حوار فشت” و”جرادة” القطرية او بالتدخل الاقليمي المباشر في شؤونها. كيف يمكن ان تواجه قطر جيران عتاة وخارجين عن القانون الدولي؟ لاجل هذا كانت هناك بعض الافكار الخلاقة وبعض من الحلول المشطة والمكلفة من الناحية “الرمزية”. من الحلول الخلاقة كان بعث قناة الجزيرة في اول نوفمبر 1996 اي بالضبط عشية الانقلاب الفاشل المدعوم من السعودية والبحرين وربما ايضا من مصر. اما الحلول المكلفة رمزيا فهي الارتماء -الغير مجاني بالطبع- تحت المضلة الامريكية والصهيونية وهذا ليس غريبا عن التاريخ السياسي العربي فقد كانت الممالك المتناحرة في الاندلس تستقوي على بعضها البعض بملوك الشمال المسيحيين. وفي اوج الحملة الصليبية على الوطن العربي تحالف السلاطين المماليك مع ملوك الفرنجة الغزاة.
وفي سنة 2003 راينا “ثعلب الصحراء” التي انطلقت من الخليج نحو العراق وقد تخرج ثعالة اخرى من الصحراء العربية في اتجاه ايران هذه الايام. كل هذا مفهوم سياسيا. فكيف نفهم “سياسيا” ايضا تبني قطر للثورات العربية واستماتتها في الدفاع عنها اعلاميا وسياسيا وماليا؟ مالذي تشترك فيه الثورات العربية مع قطر كدولة اي قطر الرسمية؟ يشتركان اولا في قهر السنين: فكما شرد المواطن العربي من قبل الانظمة الديكتاتورية وتاه في عواصم الارض هامت “ال خليفة” على وجهها من نجد الي البصرة الي الكويت والبحرين لتنتهي في قطر. وكما يشتكي المواطن العربي من “حقرة” الاقوياء واصحاب السلطة والمتنفذين تشتكي قطر الرسمية من “حقرة” السعودية والبحرين وابو ضبي ومصر. وكما “اكل السبع” مال المواطن العربي الضعيف اكلت السعودية والبحرين الاراضي والجزر القطرية. وكما ضاق المواطن العربي ذرعا بالمحاباة وبالكيل بمكاييل عدة ضاقت قطر ذرعا بمحاباة مصر للسعودية وعدم انجاحها لاعمال اللجنة المشتركة لترسيم الحدود كما نص على ذلك اعلان المدينة المنورة في 20 ديسمبر 1992. وكما خاب ظن المواطن العربي في الهيئات الحقوقية الدولية وفي تواطؤ الدول الكبرى مع الانظمة الحاكمة خاب ظن قطر الرسمية في القانون الدولي.
وحتى لا اطيل في هذه المقارنة اقول: ينادي المواطن العربي بسيادة القانون حتي ترجع له حقوقه وتنادي قطر بسيادة القانون حتى ترجع لها اراضيها. ويبلغ هذا التصادي مداه الابعد عندما تطالب بعض الساحات الثائرة بحماية دولية للمدنيين وهي دعوة لا تجد غالبا صدى لها الا عند قطر فكانها تقول بذلك وهي تغمز الي من يعيب عليها القواعد الامريكية والعلاقة مع اسرائيل: “ارايتم الي ماذا يضطر من يتهدده الهلاك؟”. ان قيام انظمة ديمقراطية في كل من المغرب وتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا يعني قيام نظام اقليمي عربي ديمقراطي يتساوى فيه الصغير والكبير كما ان قيام هيئات وسلط مستقلة ومسؤولة امام شعوبها هو ما يضمن لهذه الدول استقلالية القرار وحيادية المواقف خلال النزاعات الدولية وهو ما يعني بالنسبة لقطر ضمان المعاملة الطيبة من قبل جيرانها الكبار وامكانية استرجاع مصر لدورها الاقليمي كقاضى نزيه وهو ما يعني في الاخير تطويق السعودية واضعافها اقليميا ودوليا. اقليميا ستصبح السعودية هي النظام الوحيد المتحجر وغير الديمقراطي في المنطقة العربية قياسا بالطبع مع الكويت او العراق او ايران أو الاردن التي تسير ولو بخطى متعثرة نحو الديمقراطية.
لقد وعت السعودية حجم الخطر الذي يتهدد نظامها منذ انتصار الثورة التونسية ولنا عدة دلالات على هذا الوعي المبكر بالخطر: منها اصرار قناة العربية -في بداية الثورات- على وصف ما حدث في تونس او مصر لا على انه ثورات وانما هي “ازمات” حيث تعنون اخبارها بـ: “الازمة في تونس” او “مصر في قلب العاصفة” او “الاحداث في اليمن” كما ان استضافتها لبن علي وربطها تقديم مساعدات لمصر مقابل عدم محاكمة مبارك فيه دلالات كبيرة على استشعارها للخطر من انهيار النظام الرسمي العربي وهو استشعار بلغ درجة الفزع الذي عبر عن نفسه في اقتراح ضم المغرب لمجلس التعاون الخليجي. اما اضعاف السعودية دوليا فقد بدا في الواقع منذ احداث سبتمبر 2001 عندما ارتد وبالا على السعودية دعمها للاسلام الجهادي في كل من افغانستان والشيشان حيث تورط اكثر من خمسة عشرة سعوديا في تفجيرات واشطن ونيويورك الامر الذي دفع “بنيويورك تايمز” في اكتوبر 2001 الي القول بان “السعودية تتسامح مع الارهاب وان الامتناع عن انتقاد القمع والفساد في المملكة ليس له من نتيجة غير التشجيع على مثل هذه العادات الهدامة”. اما مؤسسة “راند” الامريكية المتخصصة في شؤون الدفاع فقد رفعت تقريرا الي الخارجية الامريكية فيه “ان السعودية قد انتقلت من موقع الحليف والصديق الي عدو استراتيجي”.
هذا الانكماش في دور السعودية هو ما شجع قطر الي اتخاذ مواقف اكثر هجومية اولها محاولة تقديم نفسها كدولة داعمة للتحرر والديمقراطية وثانيا بمحاولة افتكاك الزعامة الدينية من السعودية وذلك بدعمها وترويضها للاسلام السياسي حتى يصبح معتدلا وديمقراطيا ومهادنا للولايات المتحدة وربما ايضا لاسرائيل. ان دور قطر اليوم هو اصلاح “الاثار الجانبية” لدور السعودية بالامس: فعندما كانت الولايات المتحدة تصارع الاتحاد السوفياتي احتاجت الي من يحارب بالوكالة عنها فكانت السعودية وكان الاسلام الجهادي. اما وقد درس الاتحاد السوفياتي وارتد الاسلام الجهادي وبالا على العالم الغربي فلابد من قطر حتى تروضه وتقلم له اظافره فيتحول الي اسلام “لايت”. ان هذا الدور المنوط بقطر هو ما يفسر لنا حجم الاحتفال الغربي بقطر. ففيها اكبر القواعد الامريكية وان كانت هي من مول انشاءها وهي من يدفع رواتب جنودها -وهي بذلك اول دولة في التاريخ تشتري جيشا بقظه وقظيظه- وفيها ايضا تنظم اهم الملتقيات العالمية وفيها ستقام اهم التظاهرات الرياضية في العالم.
ولقد وعى ال ثاني حجم حاجة العالم الغربي لهم بعد سبتمبر 2001 لذلك تحولوا من موقف الدفاع عن انفسهم وترديد قولتهم الشهيرة “نحن دولة صغيرة” الي موقع الهجوم الذي وصل مداه في التسجيل الصوتي الذي كشف عنه النقاب سنة 2013 حيث يتحدث الامير حمد بن خليفة ووزير خارجيته حمد بن جاسم عن النظام السعودي “الايل للسقوط” بل ان الامير حمد بن خليفة اقسم بالله ان السعودية منتهية على يده وان قطر ستدخل يوما الي القطيف والشرقية. وعندما نتذكر “تغريبة” ال ثاني وخروجهم من نجد وضربهم في الصحراء وحلولهم بقطر وقظم البحرين والسعودية لهم نعرف ان تبنيهم للثورات العربية ليس لان هذه الثورات تشفي لهم غليلا ديمقراطيا وانما لانها تشفي لهم احقادا تاريخية وتهدّئ لهم هواجسا جغرافية.