غسان بن خليفة
متى نتجاوز ردود الفعل العاطفية على مشاهد الدماء إلى الفعل الواعي والمنظم لوقف سفكها؟ متى نتوقّف عن استهلاك التفسيرات الثقافويّة العنصرية السطحيّة من نوع أنّ “الإسلام هو مصدر الإرهاب” (هل كان الفرنسيون الذين قطعوا رؤوس المجاهدين الجزائريين ومثّلوا بجماجمهم مسلمين مثلا؟).
متى نفهم أنّ الارهابي هو نفسه ضحيّة لمنظومة تفقير البشر متعدّدة الأبعاد (تربويًا، ثقافيا، روحيا ولا فقط اقتصاديًا)؟ متى نستوعب أنّ “بيئة وظروف وتجربة عيش الناس هي التي تصنع وعيهم الفردي”؟
متى نقتنع أنّ هذه الدولة التي يطالبها البعض منّا بهذا الأمر أو ذاك ليست ملكًا لكلّ التونسيين (يكفي مقارنة أرقام الانفاق العمومي وحالة البنية التحتية والخدمات بين الجهات لفهم ذلك)؟ بل هي جهاز لإعادة انتاج اللامساواة والظلم والتمييز بينهم (يكفي أن نرى كيف يتمّ التعامل مع مختلف ضحايا الارهاب) متى نفهم أنّ الدولة ليست سوى أداة تقنين وتنفيذ وحراسة لمصالح فئات اجتماعية بعينها، تحتكر ثروات البلاد وحكمها منذ عقود -بل قرون- طويلة؟ متى نتأكّد أنّ هذه الفئات أو “الطبقة الاجتماعية الحاكمة” هي ليست أكثر من “وكيل تجاري” أو “سمسار” يعمل منذ قرنين على الأقلّ على بيع ثروات وخيرات البلاد في شكل مواد أوّلية وسوق استهلاك لرؤوس الأموال الأجنبية بأبخس الأثمان؟
متى نفهم أنّ هذه الدولة المكرّسة للحيف الطبقي والجهوي ليست سوى واجهة بيروقراطية وقمعيّة لمنظومة أوسع ومتعدّدة الأبعاد؟ منظومة تبدأ من البرلمان الذي يسنّ القوانين لصالح الطبقات الحاكمة بالخارج قبل الداخل، إلى المدرسة والجامعة التي تفرض الايديولوجيا المهيمنة في التاريخ والاقتصاد وغيره، إلى وسائل الاعلام و”معاهد سبر الآراء”، المملوكة لأعضاء نفس الطبقات، التي تصنع “الرأي العامّ” والوعي الجماعي السائد؟ إلى بعض “المجتمع المدني” الذي ينشر ثقافة “التمكين” و”تعزيز المهارات” و”المبادرة الخاصّة” و”التنمية البشريّة” كحلول وهميّة تسكينيّة مزيّفة، إلى البنوك التي تمصّ دماء الكادحين، إلى صاحب العمل الذي يستغلّ من يشغّلهم، إلى رجال الدين المروّجين لأوهام “الصبر في الدنيا من أجل الآخرة”، إلى المصحّات الخاصّة التي لا تعبأ بحياة من لا يملك المال… والخ.
كلّها وغيرها أبعاد ومجالات مختلفة لمنظومة واحدة لها مراكز قرار رئيسية خارج بلادنا، وأخرى ثانوية مرتبطة بها داخلها. هذه المنظومة القائمة على قيم الأنانية عوض نكران الذات، على التنافس بين البشر عوض تعاونهم، على تمجيد الثراء والتبذير على حساب القناعة، على مراكمة الربح الخاصّ عوض التوزيع العادل للثروة، على مصلحة الأقلية على حساب الأغلبية… هذه المنظومة لها اسم واضح معلوم: الرأسمالية.
وهذه الرأسمالية أخذت في العقود الأخيرة شكلا احتكاريًا معولمًا (يُعرف بالنيوليبرالية) يتمظهر في اتفاقيات التجارة الحرّة التي تكون دائما لصالح برجوازيات الدول الرأسمالية بالشمال على حساب مفقّري الجنوب، وفي شروط قروض المؤسسات المالية الدولية، وفي انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي، وفي ممارسات الشركات متعددة الجنسيات من إضرار بالبيئة وسلعنة لحقّ فقراء الجنوب في البذور والتلاقيح والتكنولوجيا المتطوّرة، وفي الحروب الاستعمارية عند الحاجة، وفي صفقات الأسلحة وغيره.
طالما لم نفهم حقيقة هذه المنظومة، ولم نتنظمّ لمقاومتها والقضاء عليها واحلال العدالة الاجتماعية ونمط الانتاج التعاوني بديلا منها، وبناء الديمقراطية الحقيقية القائمة على المساواة الفعليّة، فسنظلّ نبكي موتى وضحايا الارهاب، والاجرام والمخدّرات والفقر والتلوّث وغيره من نتائج وكوارث هذه المنظومة الفاسدة المدمّرة.