الحكومة وحربها على الفساد أفلح إن صدق…
نور الدين الغيلوفي
1. في ظل مناخ الريبة الذي أُلقي فيه بالتونسيين، بمقتضى الحرب التي يشنّها رئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد ضدّ بعض المتَّهمين بالفساد من المهرّبين ورجال الأعمال، نجد أنفسنا أمام فرضيتين لقراءة هذه الحملة:
• الفرضية الأولى تقول إن رئيس الحكومة جادّ في معركته ضدّ الفساد وقد اختار الدولة فعلا وقرر أن يخوض حربه على الفاسدين كلّفه ذلك ما كلّفه وهو يعلم أنّها معركة شرسة وأسلحة الفاسدين فيها متعدّدة ولديهم من القدرات ما قد يربك الدولة التي أعلن انحيازه إليها.. ولذلك وجب على الجميع دعمه لأنّ الفساد قرين الاستبداد وأشدّ فتكا بالبلاد من الإرهاب..
• الفرضية الثانية تقول إنّ حملة الاعتقالات إنما تنجزها عصابة ضدّ أخرى في سياق معارك المافيا.. وبهذا الاعتبار فإن الدولة التي تحدّث عنها الشاهد ما هي إلا دولة مختطفة من قبل من هم أقوى من الذين شملتهم حملة الاعتقالات وأشدّ نفوذا.. أمّا هو فلا يعدو أن يكون خادما لأجندة بعض بارونات الفساد المحتجبين وواجهة لهم..
2. أذكر أنّ النظام البائد، لمّا تقدّمت إليه حركة النهضة سنة 1989 بطلب ترخيص حزب سياسيّ، رفض طلبها بتعلّة مخالفتها لقانون الأحزاب الذي يحظر الأحزاب ذات الخلفيّة الدينيّة.. ويقال إنّ من جملة من أشاروا عليه بعدم الترخيص لها وقتها كانوا بعض رجال الأعمال.. ومنذ ذلك الحين كنّا نعلم أنّ لرجال الأعمال اليد الطولى في تشكيل المشهدين السياسيّ والإداريّ بما يوافق مصالحهم ويستجيب لجشعهم ويضاعف من ثرواتهم بلا رقيب.. رأسماليّة متوحّشة تأكل من الوطن وتمتنع عن المساهمة في بنائه.. وشيئا فشيئا صارت سياسة البلاد محكومة بالمال والأعمال.. وصار صاحب المال سيّدا على كلّ شيء.. وعمّت المضاربة كلّ مجال حتّى أصبح رئيس الدولة نفسه معنيًّا بتكديس الثروات له ولعائلته داخل البلاد وخارجها مستغلّا في ذلك سلطته مستعملا مختلف مرافق الدولة لغايته…
3. تقدّمت النهضة إلى العمل السياسي القانونيّ وهي المعروفة بخلفيتها “الدينيّة” ومرجعيتها “الإسلاميّة”.. ولم تكن لرجال الأعمال هؤلاء مشكلة مع المرجعية الإسلامية غير أنّهم كانوا محكومين بتصوّر مفاده أنّ هذا الحزب يمتلك شعبية بين الناس وقد تحمله أصواتهم إلى الحكم يوما.. ويخاف هؤلاء أن يكون المرجع الأخلاقي المستند إلى التعاليم الدينية التي تميل إليها الفئات الشعبية المتضرّرة حاسما في توجيه سياساته وتلوين خياراته.. والتزام الحزب بتلك التعاليم قد يساعد أبناء الشعب الكريم على الخلاص من جشع الأغنياء الذين احتكروا الثروة واستولوا على السلطة.. يخاف هؤلاء، إن آلت السلطة إلى هذا الفصيل السياسيّ، أن يضطرّهم إلى ما يكرهون من أمر الكسب ويقيّد حركتهم ويحدّ من نفوذهم.. ولذلك أشاروا على النظام برفض تسوية أمره بالقانون.. ولا شكّ في أنّهم هم أنفسهم الذين أشاروا على النظام بالمعالجة الأمنية التي كانت تستهدف استئصال الفصيل الإسلاميّ من البلاد وراح ضحيّتها الآلاف بين شهيد وسجين ومنفيّ.. ولعلّهم كانوا يعتقدون أنّ تغييب ذلك الفصيل قد يحجّم الوازع الأخلاقي ممّا يخوّل لهم الحركة وفق مبدإ “الغاية تبرّر الوسيلة”.. لأنّه متى غاب الوازع الأخلاقي وكان القانون في صفّ الأغنياء والأقوياء صار كلّ شيء ممكنا ومتاحا ومباحا…
4. لما استتبّ الأمر للمخلوع فقدت الدولة مناعتها وسكن اللصوص في كل ناحية منها وانتشر الفساد واستفحل الظلم.. واحتمى الفاسدون بالسلطة واستولوا على مقدّرات الدولة واستعملوا مرافقها.. وتمترس الاستبداد بإسناد من الفساد.. واستتبّ الأمر لبن علي فحكم وطال به حكمه.. ولمّا كان الرجل بلا رصيد من قيم أو وطنية أو أخلاق فقد استشرى الفساد في عهده بلا رقابة من أخلاق وبتواطؤ من القانون.. وابتلع الفساد السياسة وجعلها في خدمته.. وما استشراء الفساد في البلاد وما الحصانة التي بات يتمتّع بها الفاسدون سوى دليل على أنّ السياسة نفسها باتت في خدمة الفاسدين.. وصار من يملك المال متحكّما في السياسة والثقافة والتربية.. لقد كان نظام بن عليّ بحقّ نتاجا لزواج كاثوليكيّ بين السلطة والفساد.. لذلك كان كثير من التونسيين يعتقدون أنّه من أكثر الأنظمة السياسيّة في المنطقة سوءا.
5. قامت الثورة وكان من أهم شعاراتها وأشدّها وعيا “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” و”شغل حرية كرامة وطنية”.. لقد كان المتظاهرون واعين بأنّ المال والسياسة متداخلان وأنّ الاستبداد والفساد شريكان في نشر الفقر وقطع الرزق وفقد الأمل لدى شرائح واسعة من أبناء الشعب.. وحتّى يؤمّن الفاسدون أنفسهم فقد استخدموا جميع مرافق الدولة للتنكيل بالناس وخنق الحريات وإحصاء الأنفاس.. حتّى انتشرت القصص العجيبة والغريبة التي ظهر فيها المتنفّذون في مظاهر الوحوش الذين لا يرقبون في البلاد والعباد إلّا ولا ذمّة.. وسيق الشعب التونسي إلى الفقر والصمت حتى تحوّلت البلاد إلى مقبرة.. فكانت خلاصة الصورة بئرا معطَّلةً وقصرًا مشيدًا.
6. لمّا قامت الثورة هرب رئيس النظام، وبهروبه سقطت الواجهة التي كان يحتمي بها الفاسدون.. ووجد هؤلاء أنفسهم وجها لوجه مع الشعب فاحتجبوا عن الأنظار ريثما يعيدون ترتيب أوراقهم من أجل التكيّف مع الواقع الجديد.. ودفع أصهار بن علي ومقرّبوه الثمن، بعد أن أخذتهم العزّة بالإثم من فرط غبائهم.. وتوجّهت إليهم أصابع الاتّهام وقُبض على بعضهم وتحصّن البعض الآخر بالفرار أسوة برئيسهم.. أمّا غير هؤلاء فقد اختفوا عن الأنظار يرتّبون الأمور ويدبّرون في الليل ما يحلو لهم…
7. انقسم أنصار الثورة وتفرّقوا شيعا يلعن بعضهم بعضا ويكيد بعضهم لبعض.. وبلغت المكائد أن لجأ بعض السياسيين المحسوبين على الثورة والمدافعين عن الديمقراطية والليبرالية والقيم الجمهورية إلى بعض المتنفّذين من رجال الأعمال للاستعانة بهم من أجل قطع الطريق على خصومهم الذين قد تسفر صناديق انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011 عن تقدّمهم وتفوّقهم بحكم اختيار الشعب..
8. لقد صرّح السياسي اليساري محمد الكيلاني لموقع نواة بأن “كل القوى الديمقراطية والليبرالية على علاقة بكمال لطيّف دون استثناء”.. وذكر أن “الرفيق حمّة الهمّامي ذاته قابله عدّة مرّات” قبل الثورة وبعدها.. وأكّد أنّ الرجل يتحكّم في المشهد السياسيّ برتبة “صانع ألعاب” وهو إلى ذلك محصَّن ضدّ أيّ اتّهام بدعوى أنّه كان “معارضا” للنظام!.. ولمّا كان لديه المال ويملك تصوّرا للعمل السياسي فقد لجأت إليه مختلف القوى الديمقراطية واليبرالية ليساعدها على تجنّب “مخاطر صعود حركة النهضة إلى السلطة”.. وذكر أنّ “طريقة أكبر البقايا” في الانتخابات إنّما كانت فكرة/ حيلة كمال لطيّف.. ولقد نجح الرجل في فرض فكرته على الكلّ ومن ثمّ كان هو مهندس المشهد النيابيّ في لحظتيه التأسيسية والبرلمانية.
9. مادام كمال لطيّف عنوانا من عناوين الفساد لدى الكثير من شرائح الشعب التونسيّ ومادام كثير من السياسيين المدافعين عن الحداثة والديمقراطية وقيم الجمهورية داخل السلطة وخارجها على صلة به فإنّ الأمر جلَلٌ لأنّ المعركة ضدّ الفساد ستكون في غير المصلحة الوطنيّة، ومن ثمّ سنعود إن نحن مضينا قدما في تعرية الفاسدين والإيقاع بهم، سنعود إلى المربّع الأوّل، مربّع الكيد.. وقد يصل تحالف السياسيين والفاسدين بنا إلى مآل لا نرتضيه لبلادنا.. ذلك أنّ بعض سياسيينا مستعدّون لتدمير البلاد بما فيها، من أجل القضاء على خصومهم الإيديولوجيين ولو أدّى بهم ذلك إلى التحالف مع أعداء الوطن.. إّننا لا نزال نذكر موقف الناشطة سهير بلحسن لمّا استغاثت بفرنسا لتحرير “تونس اللائكية” من شبح حركة النهضة الإسلاميّة في ذلك البرنامج الشهير على منبر القناة الفرنسية الثانية…
10. الفساد طاعون وجب شنّ الحرب عليه بلا هوادة استنادا إلى الدستور واحتماء بالقانون والتزاما بأهداف الثورة وحرصا على المصلحة الوطنيّة ووجب الوقوف في وجهه صفا واحدا.. لأجل ذلك يتعيّن على الجميع مناصرة الحكومة في مشروعها للإطاحة برؤوس الفساد كلِّ الرؤوس بلا استثناء.. على أنّه يتوجّب على الحكومة توحيد المكاييل في التصدّي لبارونات الفساد حتّى لا يفهم الناس أنّ عائلات المافيا يصفّي بعضها بعضا باستعمال الدولة وباستخدام الحكومة.. وأولى الخطوات التي من شأنها أن تجعل للدولة ظهيرا من الشعب في مواجهة الفاسدين، هي:
• أن تتحرّى الحكومة مصارحة الناس وتوضيح الأمور ورفع الالتباس حتى نتجاوز لحظة الارتياب في الذين يحكموننا إلى لحظة الثقة بهم ومناصرتهم..
• أن يكون لنا من الشجاعة ما به نحارب الفساد بشتّى مظاهره الاقتصاديّة والسياسيةّ.. فالذين يستقوون برجال الأعمال المتنفّذين للتحكّم في الانتخابات وتوجيهها إنّما يلوّثون الديمقراطية ويفسدون الانتخابات ويزيّفون إرادة الشعب.. وليس أشدّ انتهاكا لحقوق الناس من منعهم أن يتحرّروا في اختيارهم من كلّ إكراه ومن أن تصادَر مواقفهم بدعوى نصرة القيم الجمهورية والحداثيّة.. فمن أين لهؤلاء أن يمارسوا وصايتهم على الشعب فينتدبوا جلّاديه ومصّاصي دمائه للانقلاب عليه؟