أبو يعرب المرزوقي
هل حقا تريد أنظمة العرب محاربة الإرهاب من أجل مصلحة شعوبها؟
سأكتفي بهذا السؤال لأجيب عنه.
السؤال الثاني أهمله لأني لا أصدق أن الغرب يحاربه.
فالغرب يسمي إرهابا كل حركات التحرر، ومن ثم فمن العسير أن نعتبر ما يسميه إرهابا، إرهابا. لذلك سأكتفي بما تسميه النخب العربية الحاكمة إرهابا.
يعرف الإرهاب عادة بانه طلب الحكم بالعنف بدل السبل السياسية.
وإذن فينبغي أن نسمي إرهابا كذلك السعي للبقاء فيه بالعنف بدل السبل السياسية.
وحينئذ فنحن أمام حالتين ينطبق عليها هذا الوصف بالنسبة إلى طلب الحكم بالحكم والتشبث به بالعنف. ففي الحالتين الإرهاب يكون ضد إرادة الجماعة.
الحالتان:
1. تتعلق بالعنف في السياسة الداخلية بين الأنظمة والمعارضات الوطنية.
2. العنف بين موقفين من مرجعية الدولة قطرية أو متجاوزة للقطرية.
وواضح أن الانظمة الحاكمة تحاول دائما رد الأولى إلى الثانية، لتيسر على نفسها دعوى تمثيل الدولة الوطنية ضد دولة متجاوزة للأوطان هي دولة الإسلام. فينتج عن ذلك أن المرجعية الإسلامية بمجردها، كافية لاعتبار أي حركة سياسية غير وطنية، لأنها تقول بمرجعية متجاوزة للأقطار الموروثة على الاستعمار. وأصحاب هذا الموقف لا يرون تناقضهم، فمرجعياتهم هي بدورها متجاوزة للأقطار دون أن تعني نفيها لها، بل هي تصلها بمرجعية عالمية اشتراكية أو رأسمالية. ذلك أنهم حتى لو قال صاحب المرجعية الإسلامية أنه يقصر همه على القطر والدولة الوطنية، فهم يعتبرونه مخاتلا “يتمسكن حتى يتمكن” بخطاب مزدوج. حاصل القول إن الحكام يتشبثون بالحكم بالعنف، فيكونوا بذلك وكأنهم لم يبقوا لمعارضيهم غير انتهاج نهجهم في طلبه. فهم طلبوه بالعنف وحافظوا عليه به. لكن لو بقي الأمر عند هذا الحد، لقلنا إن ذلك يمكن أن يكون مشروعا إذا كان لصالح بناء الدولة الوطنية، وهو ما كنت سأفهمه لو ماثل الصين أو ماليزيا، وكان يمكن كذلك أن أتفهمه لو كان عنفا شبه مشروع، لأن الحاكمين يمثلون غالبية الشعب وتحقق مصالح الشعب. فقد يبرر ذلك مؤقتا التضحية بالديمقراطية.
لكن ماذا وهو استبداد أقلية فاسدة، لصالح مشروع تغريبي وتابع، لا يحقق أدنى حد من حقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الروحية والخلقية؟
هل هي دولة؟
وهل هي وطنية؟
وهل المشروع هو بناء دولة قادرة على حماية شعبها ورعايته؟
أليس هو استبداد مافية داخلية في خدمة مافية خارجية؟
هل بقيت لذراعي الحكم العنيفين أي “القضاء والامن” داخليا، و”الدبلوماسية والدفاع” خارجيا، حق العنف الشرعي وهما في خدمة الاستبداد والفساد؟
ألسنا في هذه الحالة أمام وضع يتقابل فيه استعمالان للعنف، كلاهما غير شرعي لأن عنف الدولة الشرعي مشروط بشرعية بقاء المجال السياسي السلمي؟
فكل قوة سياسية حاكمة تبقى فيه بالعنف بإلغاء التنافس السياسي السلمي عليه، وهي من ثم لا تختلف عن القوة السياسية التي تطلبه بالعنف: إرهاب.
ولا يمكنها أن تدعي أن عنفها هو عنف الدولة الشرعي، فمن شروط هذا العنف الشرعي شرعية من يمارسه، ولا شرعية لمن يبقى بالعنف ويلغي التنافس السلمي.
والبقاء العنيف في الحكم يكون إما بقوة ذاتية للقوة السياسية الحاكمة، أي بقوة الدولة، أو بمساعدة أجنبية بدرجتين: حماية قانونية دولية وعسكرية.
وبذلك فالوضعية الداخلية ليست صراعا بين شرعية وإرهاب، بل بين ارهابين لان شرط وصف المعارض العنيف بالإرهاب غاب: المساواة في التنافس السياسي.
والأدهى أن من يدعي استعمال عنف الدولة الشرعي، لم يكتف بعدم شرعيته، بل اضاف الخيانة: لأن من يحميه من القانون الدولي وعسكريا لا يفعل بغير مقابل. فالسيسي مثلا يحميه الأمريكي والإسرائيلي، فيغطي عنه جرائمه بالإعلام وبمنع تدخل القانون الدولي، ولا يمكن أن يفعلا ذلك مجانا بل ضد المصلحة الوطنية. وبشار لم تقتصر الحماية على منع تطبيق القانون الدولي (الفيتو الروسي)، بل وصل إلى التدخل العسكري لإيران وميلشياتها، والروسي ورعايته لداعش. وبهذا المعنى، فالأولى بأن يوصف بالإرهاب ليس المقاومة السورية، بل النظام السوري الذي ليس هو إرهابيا فحسب بمقتضى إرادة البقاء بالعنف، بل خائن. ولا أعتقد أيا من الانظمة العربية ليس له شيء مما وصفنا، داعما لبقائه العنيف: استعمال أجهزة الدولة، ثم تغطية الحامي له ومساعدته العسكرية.
وإذا كنا نريد تجاوز هذه المهازل، فينبغي أن ننطلق من هذا التحليل للوصول إلى علاج يحقق الإصلاح فيخرج شعوبنا من الحرب الاهلية بين ارهابين. وسنكتشف أنهما تابعان لإرهاب دولي، هدفه جعل الأمة في حرب أهلية دائمة بين حكام ليسوا شرعيين ويريدون البقاء بإرهاب الدولة ومعارضة تحاكيها. ذلك هو التحليل الموضوعي للوضعية. وسأقتصر على هذا المستوى ولن أتجاوزه للإرهاب الدولي الذي يفرض على العالم نفس معادلة الحكم والمعارضة هذه. علينا أن ننظر في المستوى الثاني المتعلق بالتقابل بين المرجعيتين. وهذه القضية ليست الخاصة بالمسلمين: أوروبا أيضا تعيشها. فالمعركة بين المدافعين عن الدولة الوطنية والوحدة الأوروبية، حامية الوطيس حتى وإن كانت ما تزال سلمية ولم تصل إلى ما وصلت إليه نظيرتها عندنا. ويمكن القول إن محاولات تفكيك الوحدة الأوروبية من جديد، واستعادة الدولة الوطنية، قد تؤول إلى ما يشبه ما عندنا من صراع رغم ما يبدو من تضاد. فاليسار الأوروبي سعى لتجاوز الدول القطرية واعتمد الإرهاب الأحمر، ومثلهم يفعل الجهاديون لتفكيك الدول الوطنية. الوحدة الأوروبية حل وسط.
فهل يمكن توقع حل وسط، يجمع بين المستويين الوطني والمتجاوز للوطني، شرطا في التناسب مع عصر العماليق حتى تتحقق شروط السيادة الفعلية؟
لا أعتقد أنه يوجد مخرج مختلف: فالدولة الوطنية حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها. لكنها لم تعد كافية لتحقيق شروط السيادة. لا بد من المستويين.
حكماء أوروبا فهموا الضرورة واتفقت عليها النخب بأصنافها الخمسة لأنها تلبي الحاجتين إلى حميمية القطرية وشروط السيادة المتجاوزة للقطرية.
الجمع بين الحلين في المستوى الوطني وفي المستوى المتجاوز له، يمكن من التخلص من الإرهابين المحلي بين الحكم والمعارضة والمتجاوز شرطا للسيادة.