عندما روجنا كذبة التزامنا بالصيام

الطيب الجوادي
الطيب ولد هنيّة في رمضان
لم يكن لدينا مسجد جامع بل لم يكن لدينا مسجد أصلا.. كان المصلون يتخذون من غرفة كبيرة تبرع بها جارنا محمد بن حسن مسجدا، والعادة في ريفنا أن الناس لا يصلون إلا في رمضان وبمجرد انقضاء الشهر يتركون الصلاة على أن يلتزموا بها في رمضان الموالي، وأذكر أنني أجبت سيدي عبد الكريم معلم العربية لما سألنا عن مواقيت الصلاة: خمس مرات في اليوم ونؤديها في شهر رمضان المعظم!، فنبهني أن الصلاة واجبة طيلة السنة، وأن ما نفعله في ريفنا مخالف للدين، ولكن المنصف ولد عمي طمأنني لما استفتيته في الامر بأن الصلاة لا تجب إلا في رمضان، وأن سي عبد الكريم “ما يفهمش برشة في أمور الدين، ولا يعقل أن كل متساكني دوارنا كفار !
وكان الكبار يلزموننا بالصلاة في هذا الشهر ويحشروننا أولادا وبناتا في ركن قصي من الغرفة الضيقة ويراقبون مدى التزامنا بما لقنوه لنا من آداب الصلاة التي نادرا ما كنا نلتزم بها: فلم نكن نمسك ضحكاتنا ولا أيدينا عن العبث والقرص، مما كان يثير حفيظة خالي محمد ويدفعه لتأديبنا بلسانه القاسي أو بكفه الغليظة.
من أغرب ما أتذكره عن تلك الفترة أنه لم يكن لنا مؤذن ولا آذان يرفع، كان خالي محمد بن حسن هو المؤذن وهو الإمام وهو المفتي: مع غروب الشمس كان ينظر إلى الأفق، يدقق في ساعة جيبه، ثم يعلمنا نحن الأطفال المتحلقين حوله بأن موعد الإفطار قد حل!! فنجري سراعا إلى أهالينا نزف لهم الخبر ونحن نصيح: مغرب مغرب… ولم يكن خالي يهتم بالدقة في تحديد موعد الإفطار وأذكر مرة أنه أخبرنا بحلول موعد الإفطار، فأفطر الجميع، وبعد الإفطار تبين للجميع أن الشمس لم تغرب بعد لأنها كانت محجوبة بسحب داكنة قال والدي: لا يهم نحن أفطرنا “على رقبته”.
كان الكبار يغروننا بالصوم ويرغبوننا فيه بشتى أساليب الإغراء تارة وبالوعيد تارة أخرى، كانوا يصفون الصائمين منا نحن الأطفال “بالرجال” ويعدوننا بـ “مهبة” منتفخة يوم العيد!! ويعفون الصائمين منا من بعض الأعمال الفلاحية المرهقة، ويشركوننا معهم في وجبة الإفطار، أما المفطرون فكانوا يتوعدونهم بأن يتناولوا إفطارهم يوم العيد في نفس الإناء مع كلب! ويعاملونهم بازدراء واحتقار ويرفضون إشراكهم معهم عند الإفطار، فكنا ندعي الصوم ! ونشكو العطش والجوع! ونظهر أننا مرهقون ومتعبون بتأثير الصيام! مع أننا “ملأنا” معدتنا بما لذ وطاب من بقايا إفطار اليوم السابق! بعد أن نكون قد تواطأنا مع الهذبة ابنة عمنا الكبرى التي كانت، رحمها الله، تسهل لنا الأمور لقاء أن نمنحها بعض الملاليم التي نحصل عليها من هنا وهناك لتقتني بها حلوى طحينية، حلواها المفضلة التي لم تكن تشبع منها، عفا الله عنها وغفر لها، فقد كانت فتاة طيبة و”على نياتها” وكانت تعاملنا مثل أم حنون، ولم تكن تعدم حيلة لتبرير غياب الأكل في المطبخ وكنا نحن نثقل عليها، سامحنا الله، ونضطرها بإلحاحنا واستعطافنا أن تتدبر لنا بطريقتها الأكل والحلوى وما تيسر من الأطايب التي كانت أمهاتنا تخفين النفيس منها في أماكن مجهولة لا تطلع عليها إلا الهذبة، ومازلت إلى اليوم كلما زرت قريتي النائية أجلس بجانب قبرها أقرأ الفاتحة وما تيسر من الذكر على روحها، وأدعو الله أن يكون رحيما بها مثلما كانت رحيمة بنا.
ولكن الأمور لم تنته على خير: فقد حصل أن “أتينا” على كل ما وجدناه في مطبخ العائلة! وحين وصل ابن خالي “علي” من مدرسته بعدنا لم يجد شيئا، مع أنه نبهنا منذ الصياح أن نبقي له شيئا من “المعكرونة” عندما نعود قبله إلى البيت!! فلم يكن منه إلا أن كشف كل الحكاية للأهل!! نكاية بنا،،، وكان رد الأهل قاسيا جدا: حرماننا من الإفطار !! وتكليفنا بالبقاء واقفين في الخارج حتى انتهاء وجبة الافطار، ولعل أفظع من عقوبة الأهل: افتضاح أمرنا أمام من أوهمناهم أننا قادرون على الصوم مثل الكبار والصبر على الجوع والعطش مثلهم، وبالتالي ضياع رصيد التقدير والإعجاب اللذَيْن كسبناهما عندما روجنا كذبة التزامنا بالصيام، ولم تضيع نعيمة بنت الحرام الفرصة كما هو دأبها دائما، ومع أنها كانت تفطر معنا سرٌا فقد كشفت لهنية أنني إضافة إلى عدم التزامي بالصوم، لم أكن مواظبا على الصلاة كما كنت أوهمها، وأنني عندما اتجه للحجرة التي اتّخذت مسجدا، كنت ألعب “الكارطة” مع المنصف ولد عمّي!
وقد نالت العقوبة ابن خالي عليا أيضا الذي أشبعناه قرصا وركلا وشتيمة، بعد هذه الحادثة فرضت علينا رقابة شديدة وأصبحنا نخضع لحملات “تفتيش وتدقيق منتظمة”! ومفاجئة !! فنؤمر بفتح حلوقنا للبحث عن آثار الطعام !! وإفراغ جيوبنا من كل ما فيها من دراهم حتى لا نقتني ما يمكن أكله، كما تم سحب الامتيازات التي كانت تتمتع بها الهذبة ابنة عمنا الكبرى، ولم يعد يُسمح لها بالاقتراب من المطبخ نهارا، وهو ما جعلنا نستنبط حيلا شيطانية أخرى للحصول على الطعام، انكشف بعضها وبقي البعض الأخر سرّا سنوات طويلة.

Exit mobile version