حمّادي الأمير
“قيلو فإن الشياطين لا تقيل” أما وأنا طفل فكنت من الشياطين. مهما اشتد الحر وطالت القايلة فإني لا يغمض لي جفن. حتى إذا أغلظ علي خالي القول واشتد فإني قد أمضي ساعاتي مضطجعا لكني لا أنام…
أمضيت تلك القائلة في البستان المحيط بحوشنا، ففي قريتنا تلك كل عائلة تسكن وسط بستانها، ككل قائلة كنت أمضي وقتي أسير في البستان بأنفي لا بقدميّ، أتشمم وأتبع أنفي فيحملني طورا لتفاحة ناضجة أو خوخة وطورا إلى برقوقة… أتسلق الأشجار وأتمتع بالتهام بعض الغلال في الظل ولو كان حارا لا برود فيه… أشتمّ حبة الغلة بعمق حتى تمتلئ رئتاي وأنفض عنها بعض التراب، وأكره أن أغسلها بالماء إذ تلك عادة المتمدّنين مجافي لطبيعة الذين يأكلون بأعينهم فقط ولا يعرفون الطعم الحقيقي للغلال، ثم ألتهمها بكل اللذة وبكثير من الفخر والعزة، فمن من بين أندادي يستطيع أن يتسلق الأشجار إلى أقصاها ويقطف ألذ الثمار؟
بعد العصر عاد جدي “المدّب” من المسجد. جاء يرفل في جبته وبرنسه الأبيضان، قد غطى رأسه بلحاف أبيض وفي رجليه نعال أبيض، ملاك تتقدمه هيبة ووقار حيث ما حلّ. يستقبله الناس بالبسمة دائما ويوسعون له في مجالسهم. ناداني بصوته الجهوري: حمادي! تعالى!
جئت وجلا … فجدي لا يتكلم إلا أمرا أو نهيا: “برا لجنان عمك بوشعرة الي مقابل الفلة متاع الماكينة (الفلة هي فتحة في الطابية عبارة عن مدخل. والماكينة هي عين ماء أنشأها المستعمر الفرنسي وصارت محورا في حياة القرية) في الجنان تلقى بيثرايات جيبلنا منهم بزايد وازرب روحك ماتبطاش قبل طياح الشمس تكون هنا…”
أعطتني جدتي سطلا بلاستيكيا بدا لي كبيرا سيصعب عليّ حمله إذا امتلأ، وستطول علي المسافة بكل ذلك الثقل… سرعان ما قطعت علي جدتي حبل أفكاري إذ نهرتني… “ألبس شلاكتك ما تمشيش حفيان في هالحمو هذا لا سقيك تتشوشط”.
انتعلت وحملت سطلي وانطلقت في طريق البحر. طريق بين الطوابي التي يعلوها نبات الصبار بوروده التي ترتفع شامخة في السماء كأنها مآذن للملائكة ولكني كنت دائما أتوجس منها. فالروايات المتواترة عن العبابيث التي كانت تخرج منها ملأت مخيلتي صورا وأصواتا عجائبية. غير أن جدي حافظ الستين علمني كيف أكيد لها وأقهرها بالآيات التي حفظتها.
مرّ الطريق سريعا ولاح البحر من بعيد وعند المنعطف أطلت الماكينة بـ”ساروطها” (وهي كلمة لم أجد لها أصلا لكنها في قريتنا تعني مجرى الماء النابع من العين) وقبالة فلتها كان علي أن أنعطف يمينا لأدخل جنان الحاج بوشعرة.
دخلت ويممت البيثراية (شجرة التين\الكرموس) الأولى وسرعان مارتميت بين أغصانها وقررت أن الصدقة لا تجوز حتى يشبع أهل الدار، وقد رأيتها فتوى تجلت لي كفلق الصبح حتى افتخرت بذكائي وحكمتي التي لا تضاهى. نظرت حولي فإذا الأغصان تحمل من التين أكثر مما تحمل من الأوراق. ولأني ذو ذوق في الغلال رفيع صرت أختار أحلاها وأبهاها طعما وشكلا فأزرطها مرة واحدة وتكرر هذا مرة تلو الأخرى حتى امتلأت بطني وظننت أنني ربما شبعت من التين لأول مرة في حياتي بهذا الشكل. ثم إنني قررت أن أملأ السطل حتى لو ثقل عليّ حمله فيما بعد فلعلني أحتاج في طريق العودة أن أستزيد من المذاق الرائع. صرت أتناول التين حبة تلو الأخرى وأضعها في السطل. لكن رغم شبعي كانت بعض الحبات تلح علي بدلالها وعسلها أن لا يكون مصيرها السطل فتدهس تحت لاحقتها فأضطر لأن أخبئها حيث لا ينالها ريح ولا حر الشمس. فما ان أتممت مهمتي حتى صارت بطني أثقل عليّ من السطل.
جررتهما معا بين يدي وتحت ضلوعي. وحملت معهما فرحة وبهجة لا زالت ترفرف في ذاكرتي إلى الآن. عدت إلى البيت وعندي ما أفاخر به لأسابيع طويلة…