تحركات لافتة للإنتباه يقوم بها السفير الفرنسي في تونس، بطول البلاد وعرضها، يلتقي بأشخاص، وبهيئات ويحضر في وسائل الإعلام (يشرب في قهيوة عربي)، وفي الأسواق، وفي الملاعب ويتحدث في الشأن العام التونسي، بل حتى في مسائل سيادية كالثروة النفطية، فهل تسمح الأعراف الديبلوماسية بمثل تلك التحركات؟ “أوليفيي تونس” يذكرنا بشخصية “لورنس العرب”، فهل من تشابه بين الشخصيتين؟
تزامن ظهور “لورانس العرب” مع اندلاع الثورة العربية ضد الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين (1916)، أما الثاني فقد تزامن ظهوره مع الثورات العربية ضد الأنظمة الإستبدادية فهل هي مجرد مصادفة؟ وهل أن التاريخ يعيد نفسه؟ أم أن أحداثه يمكن أن تتشابه ؟
“لورانس العرب” جاء إلى البلاد العربية، قادما إليها من المملكة المتحدة، كباحث في علم الآثار والخرائط. انتقل في أرجائها، من لبنان، إلى دمشق، مرورا بالأردن، والمملكة العربية السعودية، التقى الملوك والرؤساء، جلس مع العامة، لبس لباسهم، وأكل اكلهم، حضر أفراحهم ومآتمهم، تماما كما يفعل اليوم سفير فرنسا بتونس “أولييفيي تونس”، الذي يحتفل بالمولد النبوي الشريف على طريقة التونسيين، حيث حضرت “عصيدة الزقوقو”. فهل هي طريقة دبلوماسية مبتكرة للتقرب من الشعوب ومحاولة التعرف على خصائصصها؟.
تقول أخبار التاريخ أن “لورانس العرب” استغل نقمة العرب على الدولة العثمانية بسبب غطرسة الأتراك على العرب، واوهمهم انه سيعمل على مساعدتهم لتحقيق حلمهم في الإنفصال عن الدولة العثمانية، وبناء وطن قومي للعرب، بعد أن تأكد بأن الثورة التي يقودها “الشريف حسين مكة”، عربية وليست إسلامية. إذا، المهمة، ظاهرها دعم الثوار العرب ضد الأتراك، وباطنها قطع الطريق على فكرة الجامعة الإسلامية. “أولييفيي تونس” يقول اليوم بأن بلاده ملتزمة بإنجاح المسار الإنتقالي في تونس، (فهل زيارة هيئة الحقيقة والكرامة تتنزل في هذا الإطار ؟) وأن فرنسا معنية بأمن تونس (وهذا كلام جميل). لكنه لا يفيد اقتصاد البلاد المنهك بشيئ.
حركية السفير الفرنسي في بلادنا تجعل منه أكثر وأكبر من سفير، ربما تذكرنا بشخصية غير محببة للتونسيين وهي شخصية المقيم العام الذي ارتبط وجوده في بلادنا بالإحتلال وبنهب الثروات وكسر إرادة التحرر لدى الشعب التونسي.
مادامت فرنسا معنية بنجاح تونس لم لا تتزعم حملة دولية لإسقاط ديون تونس؟، خاصة تلك الديون القذرة التي تصرف فيها المخلوع لغير مصلحة التنمية، وللأسف الشديد فإن الشعب التونسي يسددها من قوته ومن علاجه ومن تعليم أبنائه، ومن تردي البنية التحتية، فهل من العدل أن يسدد الشعب ديونا منحت لنظام استبدادي أنفقها بغير “حوكمة رشيدة”؟ ولماذا لا يشجع “أوليفيي تونس” مواطنيه على الإستثمار في تونس؟ وأين هي المشاريع الفرنسية الكبرى في تونس الثورة؟
بالعودة إلى “توماس إدوارد لورنس” الملقب بـ”لورنس العرب” عندما ذاع صيته في البلاد العربية وكسب ثقة السياسيين وربما العامة أيضا، سعت بريطانيا إلى الإستفادة منه مستغلة إتقانه للغة العربية ومعرفته بالخرائط وبتفاصيل الحياة العربية فتم انتدابه في الجيش البريطاني وتعيينه في قسم الخرائط ليكون دليل بلاده إلى مكامن القوة والضعف عند الأتراك وعند العرب، وهذا ما جعل كثيرا من النقاد يعتبرونه جاسوسا على الأتراك وعلى العرب.
أما “أوليفيي تونس” فإنه إضافة إلى كثرة تحركاته في البلاد ربما أكثر من بعض المسؤولين، لا شك انه ومهما أظهر من تعاطف مع الدولة التونسية ومع الشعب التونسي، فإنه يخدم بالأساس مصالح بلاده، وفي هذا الإطار يأتي اهتمامه بتدريس اللغة الفرنسية، وحرصه على ان تكون بلادنا “منصة تعليم إفريقيا” للغة الفرنسية. ولكن هذه المسألة قد تبدو نوعا من الترف للمعتصمين في الكامور والمحتجين في مناطق أخرى من البلاد مطالبين بالشغل وبالتنمية وبالعدل. المحتجون والمعتصمون تحت لهيب الشمس في الصحراء يريدون لبلادهم أن تكون “منصة افريقيا” للإقتصاد، وأن تكون مطمورا لأهلها، وأن تكون لها السيادة وحدها على ثرواتها،كما بشر الدستور بذلك.