لم يكن العرب في تاريخ نهضتهم الحديثة ملأى بالخوف.. ولا يعرفون سايكلوجية الخوف التي أفرزتها مجتمعاتنا العربية المعاصرة من رعب خلال النصف الثاني من القرن العشرين وعند جيلين عربيين وبالتحديد اثر قيام الانظمة السياسية الشمولية حيث ظهرت سايكلوجية الخوف السياسي أولا وأثّرت في التفكير العربي وقيدت كل مبادرات الإنتاج والإبداع والتطور.. لم يكن جيل الاستقلال الوطني الذي عاش بين الحربين العالميتين الاولى والثانية مقيدا بسيكولوجية الخوف حيث عرفت المرحلة معارك فكرية ونقدية أغنت الفكر وأثرت مضامينها في المعرفة والنهضة العربية الحديثة…
وجدت كلمة الخوف بكل معانيها بيئة مناسبة تحضنها وتكرسها داخل مجتمعاتنا حيث اختارت لها عديد المسميات والمفاهيم، ولعل الخوف السياسي يأتي بالمرتبة الأولى من حيث التدرج اذ ان كثرة السجون والمحاكمات الجائرة والقمع المسلط على الشعوب لم يرحم احدا وشمل كل التيارات الفكرية المخالفة للسلطة ولم تستثني إلا من هم محصنون بإشعاع السلطة والمتحزبين للحزب الحاكم أو المقربين من صناع القرار وارتباط اصحاب المصالح ارتباطا مباشرا أو غير مباشر بمراكز القوى في أي بلد.
ان الخوف السياسي ليس مستجدا حيث بدأ منذ ان فكر العرب بالوحدة المزعومة والاتحاد او الحلم العربي ووصل الخوف إلى أعلى القيادات فيها وخيروا المحافظة على كراسيهم خوفا من الغرب الذي سيطر على المنطقة اقتصاديا واستراتيجيا.. ان الازمة التي خلقها المأزق السياسي العربي والذي اعترف بأزمة المثقفين تجاهل الأسباب الحقيقية، فعوض ان يقود المثقف السياسي هيمن السياسي على أنفاس المثقف نتيجة سوء الفهم بشكل خاص ومن المطابقة في الوعي الجمعي الشائع بين الحرية الفردية والاباحة سواء كانوا من اليمين او من اليسار او الوسط.. وتكرست ظاهرة الاحادية التي قتلت المواهب او غمرتها او همشتها.
الخوف الآخر والذي هو اكثر خطورة وتفشي كان الترهيب (بالدين) ومحاوله تركيع الشعوب بالتكفير وخلق صراعات مذهبية وظهرت الفتاوى المتعددة قابلة لتأويلات خطيرة تضر الفكر العربي والبناء الإنساني بشكل عام. كما انه لا يجب ان ننكر ان هناك سلوكا توارثناه نحن العرب عن آبائنا وأجدادنا وهو الخوف من نقد الكبار يمتد تأثيره لجيل أو جيلين.. وبالرغم من محاولات تطوير اساليب تربوية وعلمية ومعرفية وفلسفية الا ان الإحجام عن النقد والتوقف عن ممارسة الحوار اغتال فينا روح الإبداع والتميز اذ تصل احيانا درجة الاعجاب والانبهار باشخاص معينين الى مرتبة التقديس وخلق فضاء تمجيد وتعظيم ورسم هالة عريضة من المفاخرات بعيدا عن أية نزعة نقدية منطقية بناءة… نأمل ان يولد وعي جديد وتفكير جديد وفهم جديد يترسخ في الحياة العربية كلها.. ولكن الاكيد سيكون ضمن اشتراطات أساسية…
اذا السياسة والدين من اكبر مجالات الخوف لدي المواطن العربي البسيط ولقد استفحل هذا الخوف وتغلغل في كل المجالات الحياتية.. إذ اصبحت الحقيقة محجبة وانهارت الثقة في كل من حولنا وتغيرت أدبيات وثقافات الحديث بين جميع الأطراف خوف الإتهامات بالتكفير والتخوين حتى ان مفهوم الديمقراطية اكتسب مصطلحا على قياس المجتمع العربي بمنطق الخصوصية والإستثناء ولم يعد معناها يفترض نزوع الجميع إلى أن يعترف بهم كأسياد فاعلين أي كموطن وعي أخلاقي وقيمي قادر على حمل المسؤولية المدنية والمشاركة في توجيه وتسيير الحياة العامة والمطالبة بالحرية القانونية كشرط اساسي لهذه السيادة، وخلق استراتيجية عربية ثابتة تنطلق من “التوافق العربي” الذي فرضته ثورات (الربيع العربي) والذي يتطلب نقدا واعادة نظر ضمن آليات الديمقراطية.
إن تفاقم القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب وفقدان الثقة بالنظم القائمة لا تزال تنظر بصورة سلبية إن لم يكن بروح الشك إلى مشروع التغيير خاصة اذا كانت هناك مساعي لتغير اسماء الممسكين بالسلطة والقابضين عليها دون التغيير الجذري وهذا حصاد ما انتجتنه النظم القديمة (اي قبل الثورات) ونجاحها في القضاء على أي ثقافة مدنية سياسية دستورية حديثة وقتل روح الوعي كما كانت اثناء الصراع ضد السيطرة الأوروبية الاستعمارية.
واقع الحال العربي يتزايد فيه الخوف وكل فترة يظهر غول جديد يكرس مفهوم الخوف ويعيق التفكير بمستقبل الأجيال القادمة وعليه نتوقع أجيالا كثيرة تحمل نفس الأفكار بل أكثر تخوفا من سابقتها والدليل استخدام التكنولوجيا الحديثة في بث ونشر الأفكار الغريبة والتي لها مروجيها ومتلقيها المغيبين تماما عن العالم إلا من قوقعة يعيشون فيها، علينا تسهيل البنية والبيئة بنشر الوعي بين الناس دون مصلحة أو تفريق وكذلك محاربة الأفكار الغريبة عنا ومطالبة كل الأقلام والكتاب وكل الجمعيات المختلفة والمهتمة بحقوق الإنسان وكل من لهم القدرة على محاربة الخوف وإزالته وان يكون لهم موقفا واضحا من مصادر الخوف العربي من أجهزة (شرطة وامن ومخابرات ومسميات كثيرة) ومراقبة الفضائيات التي تصدر فتاوي غريبة عجيبة بمنطق الدعوى… كما على كل الفاعلين العمل على إحياء معنى الإنسان في كل فرد وتجديد وعيه والارتقاء بالوعي الجمعي إلى مستوى الحياة المدنية والأخلاقية بعد طال انتظار الشعوب العربية للحصول علي حريتها الحقيقية.