1. سأل سائل: من هو أفضل مدرسي الجغرافيا ؟
أجاب سامعه: السفر، والحروب، والكتب.
لم يستغرب احد من ذكر السفر، ولا حتى من ذكر الكتب. ولكن عجب الجميع من ذكر الحروب. فقالوا بصوت واحد: وكيف ذاك يا أخا العرب ؟
2. قال: لم اكن اعرف من يوغوسلافيا سوى ذاك البلد الذي رئيسه تيتو الساكن في زاوية ما من الذاكرة بجوار عبد الناصر ونهرو، والبلد الذي نظم دورة لألعاب البحر المتوسط أواسط السبعينات كنت اتابع وقائعها في ليالي الصيف من مذياع رديء الصوت.
ولكن لما أطلقت الوحوش من عقالها سنة 1992 تقتل وتصلب وتغتصب، انبسطت امام ارادتي العاجزة الخارطة. فعرفنا كرواتيا وصربيا والبوسنة والهرسك. وعرفنا سريبرينيتشا وغيرها. عرفنا مصاصي دماء وعرفنا رجالا عظاما. عرفنا حارس سيلادزيتش، وعرفنا الضمير والمفكر والفيلسوف والمتصوف والسياسي علي عزت بيغوفيتش الذي عركته المحن والتأمل والحروب ايضا. لم نكن بحاجة الى كل تلك الدماء لنعرف الجغرافيا. ولكن الحياة لا تعطينا دائما ما نريد.
وقال: ما كنت اعرف من العراق الا اسم بغداد لأنها كانت عاصمة العالم ذات يوم، والكوفة مرقد الإمام، والبصرة منطلق السندباد البحري في رحلاته السبعة.
وفجأة هدد أحدهم: سنعيدكم الى العصر الحجري. ولم يكن يكذب.
فيدخل العالم تفاصيل الخريطة من بوابة أم قصر، الميناء الصغير المقاوم، الى احياء بغداد، الى الفلوجة وتلعفر وتكريت والرمادي.
مرة أخرى، نحن مستعدون لتعلم الجغرافيا دون هذه الأنهار من الدماء.
4. لن اتحدث عن رواندا، وسوريا، وليبيا، واليمن…
5. الكتب والأغاني والحروب هي التي علمتني خارطة لبنان.
صوت الناقوس في اعناق القطيع عند العودة الى الضيعة يرن في أذني لحد الساعة. قرية ميخائيل نعيمة في ذروة الجبل، صوت فهد بلان الجبلي، بيروت خيمتنا، بيروت نجمتنا. الجنوب الأسطورة. الشهداء. راغب حرب، وصبحي الصالح. تل الزعتر، الدم الفلسطيني: كمال عدوان، كمال النجار، غسان كنفاني.
في وقت ما يتحول لبنان واحة في محيط من القحط. دور التشر الكثيرة: الرسالة. الطليعة، الفارابي، الكلمة، مركز دراسات الوحدة العربية، المنشورات الفلسطينية، صوت فيروز، مارسيل خليفة، نصري شمس الدين، صبرا وشاتيلا، اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت، يمشي على الجمر شبل، طفل ولكن يقاتل.
الجنوب يتحول الى أسطورة. رغم الحرب الأهلية عادت لنا بيروت، وعاد لنا لبنان. قوته في توازنه الهش.
لبنان كان خيمتنا، وبعد تحرير الجنوب اصبح قبلة ثانية لنا. النفوس عطشى للانتصارات، وهذا البلد الصغير يهدينا أعظمها.
6. لما اتصل بي بعض الاصدقاء للحضور الى بيروت لم أتردد لحظة.
حملت معي ذكرياتي وحنيني وفضولي وانطلقت. لم يحجز حرس الحدود، لا هنا ولا هناك، شيئا من الذكريات أو الحنين، أو الفضول.
7. في الطائرة قابلت صحفية حصلت بيننا “مشادة” صغيرة يوما ما.
ظنت اني احمل في قلبي شيئا ما، واني قد أقاطع أعمالها. وضحت لها ان ما يحصل في الاستوديو ينتهي من هناك، وان من حقها الاحراج، ومن حقي التفاعل. أغلقنا القوس. وواصلنا الحديث في شؤون البلد. كنا في ضفتين متقابلتين. وبالحديث تبين ان الفجوة نفسية اتصالية. وان الاختلافات الفكرية والسياسية ليست بالحدية التي نتصور.
مرة اخرى كم نحتاج من حديث لنتعرف الى بَعضنا. بالتاكيد سنبقى مختلفين وربما متناقضين حتى، ولكننا يجب ان نتفهم بَعضنا في اختلافاتنا. هذا الهدف مطلوب ان نجري وراءه برا وبحرا وعلى متن الطائرات.
8. وجدت فؤاد في انتظاري. هو سائق جنوبي شاب رافقني طيلة الساعات التي مكثتها في بيروت.
من اللحظة الاولى ادركت اننا سنصبح أصدقاء. المدينة تبدو لي مألوفة. وفؤاد يكرر كأنما يعتذر: مدينتنا صغيرة يا أستاذ. ولم يكن ذلك يهمني. لا اظن مكانا اصغر من قريتي التي احبها.
فؤاد كان يحب الحديث. وأنا لم يكن ذلك يزعجني. اراني منازل كبار مسؤولين في ذلك الحي الراقي على البحر.
في النزل قلت لا بد ان اسمع شيئا لبنانيا. وتركت صوت فهد بلان يكسر صمت الغرفة. من الشرفة كنت أرقب “الروشة”. من بعيد بدت لي دون سحر. كتبت لشقيقي الذي كان يتصل للاطمئنان من كندا “صخرة السطارة القريبة من منزلنا في بوحبيب اكثر مهابة من الروشة. الروشة كائن إعلامي”.
9. في البرنامج التلفزي الذي استدعيت اليه وجدت امامي فريقا محترفا اعد برنامجه بعمق. وكان بجانبي الاستاذ زهير حمدي من الجبهة الشعبية، وشارك معنا من تونس الاستاذ خالد شوكات.
لا بد ان ابحث عن التوازن في معادلة: النقد والدفاع. لا اخاطب جمهور تونس. اخاطب هنا جمهورا عربيا.
لينا كررت انها تتساءل من منطلق الغيرة على تجربة/نموذج.
10. ضيوفنا كانوا كرماء معنا. اتيحت لي فرصة للحوار المطول مرتين. لينا، زاهر، عمر، احمد، الشيخ نبيل. فلسطين ولبنان وتونس على نفس الطاولة. فتح وحماس. الجنوب وطرابلس. الاسلام، التجديد، الثورة، الديمقراطية، الوحدة، العدالة الاجتماعية، الطائفية، حزب الله، ايران، النهضة، حسن نصر الله، راشد الغنوشي، عبد الفتاح مورو، حمادي الجبالي، مصطفى بن جعفر، نجيب الشابي، مية الجريبي، منصف المرزوقي، الباجي قائد السبسي. الادب، العواطف، السجن، المنفى، الشهادة.
ألح الاصدقاء علي بتمديد الزيارة ولكني فضلت الرجوع للحضور في المؤتمر الجهوي بسوسة. يجب ان اساهم كمناضل في بناء الديموقراطية القاعدية.
يمكنني ان أقول: انضافت اسماء جديدة على قائمة أصدقائي.
11. فؤاد جاءني باكرا. قلت له لبنان عندي مكتبة كبيرة. اريد المكتبات. كنت اظن ان اكثر السواق في العالم هم سواق تونس. وجدت من اكثر منهم جنونا.
ذهبنا الى مكتبة أنطوان. ثم الى احد النزل حيث ينعقد المؤتمر القومي العربي وعلى هامشه معرض لكتب مركز دراسات الوحدة العربية. اخيرا اقبض على ياسين الحافظ. اريد زيارة “الهزيمة الأيديولوجيا المهزومة” مجددا.
قتلي الضيق. ابحث ان اتذكر وجود شيء اسمه المشروع النهضوي العربي. اشترى كل ما كتب من قديم قراته او حديد سمعت به ام لم اسمع. فررت خوفا على الدريهمات المتبقية في جيبي. قلت لمرافقي: الى مكتبة “بيسان”.
هناك وجدت الكتب مكدسة في تلك الفوضى التي يعشقها محبو الكتب. التقطني صاحب المكتب. كان يشبه راهبا في معبده. كان صديقا لكل الأوراق التي تحتويها مكتبته. لعله كان صديقا لكل حرف مطبوع. الح علي ان أتناول كوبا من الشاي. ولم ارفض.
تجولت بين الكتب. وعثرت على كتاب كبير حول علي شريعتي. ما أحلى ان تلتقي الاصدقاء. شكرا بيروت.
أفكر في كتابة شيء ما حول الشباب والحوارات مع الشباب.
اطالع الان بتقطع حوارات لم تنشر من قبل لاندري مالرو بعنوان: Malraux face aux jeunes : Mai 68, avant, après.
واعرف ان لسارتر تجربة ثرية في هذا المجال.
واعرف ان شريعتي لم يكن يعشق شيئا مثلما يعشق النقاش. كان محرك أفكار. سأجد في هذا الكتاب الاسلام الاجتماعي الذي احبه، والحوار الذي احبه. والجرأة التي احبها.
واشتريت كتبا عن الثورة. التفكير في الثورة لا يجب ان ينقطع. يكون قبلها، وأثناءها لكي تستمر. الثورة ليست نقطة. إنها مسار.
تحدثت مع صاحب بيسان عن تونس، وعن النهضة وعن الثورة. كان ناسكا يساريا. من تلك الفصيلة التي توشك ان تنقرض.
قال لي انا مع الدولة المدنية. قلت له ربما لم تحسم هذه القضية حسما نهائيا الا في لبنان وتونس.
غادرت المكتبة وفِي القلب شيئا ما. لم اذهب لبقية المكتبات التي تتلمذت عليها.
كنت أراقب بسهو حركة السير في الشوارع التي تعرف أسماءها الذاكرة.
12. تاجرة لبنانية شاطرة ولطيفة أرشدتني لأحلى الهدايا وأقلها تكلفة. أهدتني مع بضاعتي قطعة خشب منقوشا عليها آية الكرسي وأرزة لبنان.
13. رافقني فؤاد الى مقهى قرب “الروشة”. اكتشفت ان المكان لم يسرق سمعته. واكتشفت ان حكمي بالإمس كان متسرعا.
عرفني بخاله المقاوم، الذي كان منزعجا من رأس المال الذي يأكل الأماكن الجميلة على الشاطئي، ولا يترك للمستضعفين فرصة لمتعة مجانية.
في طريق الوداع أهداني شريطا مسجلا. قال لي “هذا فيروز كما لم تعرفها من قبل”.
لما ودعني، قال لي “أستاذ ! ان عدت يوما الى بيروت تذكر فؤاد السواق”.
الحمد لله، لقد كسبت صديقا جديدا.