نفحات بورڨيبية
الحبيب حمام
كانت السعادة تغمرنا، كنا نمرح في الحدائق، المراعي خضراء، ونفحات البورڨيبية تعبق الدنيا، تملأ أنفاسنا حتى تكاد تخنقنا من كثرة انسيابها في الهواء العليل. كنا في الستينات نتسمّى إما “حبيب” تعظيما لمنقذنا من فرنسا، الحبيب بورڨيبة، أو “جمال” تعظيما لمنقذنا من إسرائيل، جمال عبد الناصر. بعد موت جمال أصبح اسم “حبيب” يكتسح سوق السبعينات لوحده. بينما كانت الأمم الراقية تكتفي بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، كنا نحن في تونس ننعم بخير من ذلك. كنا ننعم بالبورقيبية وننهل من معينها الصافي، وأحيانا نعوم فيها ونغطس.
قلت كانت البورڨيبية تملأ أرجاء بيوتنا وحظائر دوابنا، بعدما تمكنت من أفئدتنا، وجرت في عروقنا مزاحمة الكريات البيضاء والحمراء. كان بورڨيبة يشملنا بعطفه، ويتفقدنا برعايته، ويتغمدنا بعنايته، ويغدق علينا من فيض حنانه، ويسكرنا بنضاله وصولاتها وجولاته ضد فرنسا، حتى قوي نخاعنا الشوكي ومَتُن عمودنا الفقري، وباتا سدّا منيعا ضد الاحتلال الفرنسي والفرنسة والتفرنس والفرنساويّة. كنا نكره التفرنس في الدم، وحتى النخاع الشوكي والعمودي الفقري، إلى درجة أن لا أحد فينا يعلم الاسمين بالعربية الفصحى أو باللسان الدارج التونسي، وكنا نسميهما Moelle épinière و Colonne vertébrale نكاية في فرنسا.
كان بورڨيبة يحضوني شخصيا بحُضوة خاصة، أنا مدين له بها حتى آخر أيام آخرنا موتا، الباجي قايد السبسي أو العبد الفقير إلى الله. من حُضوته، جعل تحت ذمتي بوليسا سياسيا، اسمه جمال (من مواليد الستينات طبعا)، يرعاني، ويحميني من العدو الغاشم ومن نوائب الدهر، ومن الأفكار الضالة المضللة، ومن صواعق الرعود. كان جمال من عائلة مناضلة ضد فرنسا، وكان مقاوما للفكر الفرنسي إلى درجة أنه كان يسمي نفسه Michel. كان بورڨيبة إذا حلّ بمدينتنا الصغيرة تغلق المدارس والمعاهد والمنشآت الحكومية والخاصة، طبعا بعدما تغلق أفواهنا، لكي نستقبل الزعيم. بعد إغلاق أفواهنا، يسمح لنا بأن نلهج عاليا “بالروح بالدم نفديك يا بورڨيبة”.
قام الشرير، بن علي، بانقلاب. هذا الشرير كان اليد اليمنى للرجل الطيب، بورڨيبة، ووزيره الأول ووزير داخليته. كان الشرير يأتمر بأوامر الطيب، ليقوم بأعمال طبعا طيبة، بعدما اختاره بعناية لهذه المهمّات الطيبة. لحظة الانقلاب نسينا الشعار “بالروح بالدم نفديك يا بورڨيبة”. الشيطان، يلعنو ويخزيه، أنسانا الشعار. تصوّروا حتى سي الباجي نسيه مثلنا، رغم أنه كان أكثرنا بورڨيبية وطيبة وتفانيا لخدمة بورڨيبة ويده اليمنى طبعا.
بعد أيام من الانقلاب اللعين، استبدل شرشبيل، المشعوذ البغيض، بن علي، النشيد الرسمي “ألا خلدي” بـ “حماة الحمى”. كان هذا القرار صدفة وليس بسبب البيت في قصيدة “ألا خلدي” والذي هو
نخوض اللهيب *** بروح الحبيب *** زعيم الوطن
ولأن الأمر صدفة سكت البورڨيبيون على الأمر. ثم الشيطان، يلعنو ويخزيه، مرة أخرى أنسى البورڨيبيين أن بورڨيبة تحت الإقامة الجبرية. أنساهم الشعار “بالروح بالدم نفديك يا بورڨيبة”.
بعدما رحل شرشبيل المخلوع، ورجعت نفحات البورڨيبية العبقة، وعادت ثانية تملأ أرجاء الوطن، نسي البورڨيبيون للمرة الثالث بعد المائة الثامنة والألف التاسعة شعار “بالروح بالدم بفديك يا بورڨيبة”، ولم يُرجعوا النشيد الوطني “ألا خلدي” تخليدا لذكرى بورڨيبة عبر البيت
نخوض اللهيب *** بروح الحبيب *** زعيم الوطن
الشيطان، يلعنو ويخزيه، جعل سي الباجي في قرطاج لم يُرجع النشيد الوطني البورڨيبي إلى اليوم. مازال الشيطان ينسّي فيه. وأسعد الله يومكم