حكم الرداءة يتربع في القاع.. المستشارة والردح في الحارة دونها
الحبيب بوعجيلة
في الحياة السياسية المعقلنة يمثل المستشارون المطبخ الفكري للفاعل السياسي مهما كان موقعه.
وبنظرة سريعة للمؤسسات السيادية في الدول الفعلية بما فيها الملكيات التقليدية وحتى الاستبداديات التي تريد افتكاك موقع في المشهد المعاصر تكتظ مكاتب القصور بخبراء يتم اختيارهم بدقة من المدارس السياسية والاستراتيجية المختلفة ليفكروا امام الرئيس او الملك بأصوات مختلفة في الشؤون السياسية والاقتصادية والديبلوماسية والثقافية والاجتماعية ليصوغ من خلال خبراتهم المختلفة سيناريوهات سياساته العليمة بتشعبات الساحة فيضمن اكثر نسبة نجاح لهذه السياسات.
والحق ان منصب المستشارية ومنذ حكم الترويكا تحول في الغالب الى وظيفة لانتداب المعطلين المقربين او لضمان تفرغات الحزبيين ولكن حكم الرثاثة مع “رجل الدولة” سيذهب بالمنصب الى أتعس من ذلك ليصبح المستشار مجرد “بودي قارد”، خطابي او “بروباقانديست” تعيس في توازنات خصام سياسي لا يحكمه صراع افكار ومشاريع بل دسائس وربط خيوط وقطع اخرى وقدرة صياح ومماحكة وكشف الصديق والعدو باستثمار علاقات سابقة في الشوارع الخلفية للسياسة البائسة.
السيدة سعيدة قراش كانت في برنامج التاسعة خير تجسيد لهذا المفهوم الرديء للمستشار في عهد “حكم التحيل” وبطانة السوء كما “بن تيشة” لتمثل معه استعادة اكثر فصاحة وقحة لثنائي المرحومين سعيدة ساسي ومنصور السخيري.
لم يعرف عن قراش خبرة في صناعة الفكرة السياسية او تحليلها او حسن تسويقها وانصافا لها لم يعرف على هذه المناضلة النسوية (“الملبرلة” بتهجين جينات يسراوية) شراسة في الخصومة السياسية ما يجعلها مجرد ضحية لطموحها من ناحية ولدهاء ساكن القصر لفلق واختراق عائلتها السياسية المفلوقة اصلا في سياق مهارة التفسيد السياسي من ناحية اخرى.
انطلقت سعيدة من مفهوم صحيح أفسدته بعد ذلك لانها لم تفهمه ورددته من السماع. اعتبرت أن خطاب الباجي هو اعادة هيكلة للنقاش السياسي (ريستروكتوراسيون) وهذا صحيح. في صراع القوى السياسية تكون القدرة على فرض مواضيع ووجهة وعناوين النقاش السياسي جزء من الانتصار.
لقد استطاعت المعارضة في السنة الحالية جعل الحكم في موقع الدفاع بعناوين فرضتها بقطع النظر عن صحتها وتتلخص في كون الائتلاف الحاكم بين النداء والنهضة مجرد التقاء انتهازي لمصالح متبادلة: الباجي يستقوي بالنهضة ليرسخ سلطته ويقوي جناح ابنه في سياق التوريث والنهضة تضمن لتمكين نفسها وتجنب الاقصاء عبر ترسيخ تحالف اسلاميين دساترة لانهاء تحالف تاريخي نظام يسار.
كل ذلك عبر توفير مقومات نجاح هذا الالتقاء بمصالحة القوى المالية الفاسدة واستزلام الجهاز الاعلامي والاداري العميق وتسويق ذلك للرعاة الدوليين على أنه “توافق تونسي فريد” بين قديم وجديد كنموذج لوصفة غربية يُراد تسويقها للعالم العربي للخلاص من عبء الاستبداد التقليدي والتحوط من ثورات شعبية حقيقية تذهب الى اقاصيها.
والحق أن المعارضة قد نجحت في هرسلة “التوافق” الى درجة أصبح فيه الرعاة الدوليون ممتعضين فعلا من مآلات “النموذج” بعد تصدع “النداء” وانفراد جناح واحد به يعيد للتونسيين ذكرى حكم قديم لا فرق معه الا مباركة “النهضة” له وهذا لا يكفي لسلامة “النموذج” و”جاذبيته” حسب الرعاة الدوليين.
جاء خطاب الباجي الأخير في محاولة لفرض “فهم آخر” للمشهد يحول فيه النقاش مع خصومه أمام الرعاة الدوليين على أنه نقاش بين حكم يريد التوافق ومعارضة تدفع للاستقطاب وحكم يقوي الدولة ومعارضة تستهدفها وحكم يدفع للتسويات والمصالحات الكبرى ومعارضة حاقدة تدفع للمحاسبات والقطيعة وحكم يريد حسم الخلافات بالمؤسسات الديمقراطية ومعارضة تدفع الى الشارع.
اشهاد الرعاة الدوليين كان بالتذكير بالالتزام بلقاء باريس وتحذيرهم من “ثورية” النص المعارض الذي يستعيد “فزاعات التأميم” و”المقاومة التحريرية” وثورات “الرعاع” من ذوي النزعة “التأميمية”. (قراءة بيان الكامور).
لسنا في وارد مناقشة نجاح الباجي في اعادة هيكلة النقاش السياسي ولكننا في وارد ابراز الغباء العكسي لمستشارته. قدمت سعيدة صورة الحكم متوترا شرسا حتى مع “حلفائه القدامى” بفضح تواطئهم معه (ذكر زيارة حمة الهمامي للباجي وافشاء سر الحديث). كما اشتغلت على استحضار صورة حكم مازال في عقلية جبهة الانقاذ الاستقطابية ولو على حساب الحلفاء الجدد (رش سليانة والارهاب والتسفير). كما كانت في صورة المجادل الشعبوي البائس خارج وقار المعلومة الدقيقة لمؤسسة الرئاسة (فاتورات القاروص وأخبار الفايسبوك عن وزير الترويكا).
المستشارة أعادت الرئاسة الى الموقع الذي اراد خطاب الباجي الخروج منه. فلم تظهر الرئاسة في صورة قراش بمظهر المؤسسة المسؤولة الهادئة المستمعة لمعارضتها بل كانت في صورة الطرف المتوتر في حلبة نقاش شارعي رديء.
رداءة الحكم الحالي وضعفه تبرز في نوعية الانتدابات التي يشتغل عليها فهو يؤسس لاستمرار صراع “الجهل المؤسس” تواصليا ومشاريعيا لأن هذا الجهل وحده هو الذي يتيح للفساد اعادة التهيكل في فراغات الانتهازية السياسية لتجار “النضال السابق” واللاحق.