تدوينات تونسية

الـفــــرز

عبد الحميد الجلاصي

كلما حملتني الاقدار الى تلك الطريق الموصلة الى المطار التفت شمالا الى مركز الفرز البريدي ويراودني نفس الاحساس بوخز الضمير. أقول: “كم انت جحود يا بدر”.
ويزداد هذا الاحساس حدة في مثل هذه الايام.
وبالنظر الى ان القاريء لم يفهم لحد الآن شيئا فإني اعتبر نفسي ناجحا في لفت انتباهه لما قد تأتي به الأسطر اللاحقة.

ربيع سنة 1987 كان حارا. طقس السماء وطقس الأرض ايضا. هناك كان الصراع بين الكبار حول الحبيب الجبار كما عنونت مجلة الصياد أحد ملفاتها. وصراع القصور يمتد الى الشارع. لا بد من البحث عن كبش فداء، وليس صعبا إقناع الزعيم العجوز بالخطر الذي يتهدده، وهو الذي تعهد ان يخلص البلاد من الخوانجية والأكواخ.

مشكلته ان الخوانجية قرروا ان يتخلّوا عن موقع الضحية الذي ينتظر ان يحد جلاده سكينه ليذبحه. فقرروا الالتحام بشارع لم تكن تنقصه الدوافع للتفاعل. تحولت الجامعة الى ساحة ساخنة للنقاش والى محرك للشارع.

التواصل بين وحدات الفضاء المركزي كان يزداد صعوبة كل يوم، وكذلك التواصل مع الجهات. ولكنه لم يكن مستحيلا، “واللي يسرق يغلب اللي يحاحي”. ولكن الاكثر تعقيدا هو التواصل مع الخارج. مع منفيي سنة 1981، المستقر اغلبهم في فرنسا، ومع عدد من الطلبة في فرنسا والمانيا وشمال القارة الامريكية.

حينها “بيل غايتس” كان لا يزال فقيرا، و”مارك” كان يلعب الكجج مع أترابه في الحي، وعيون الدولة تحصي الانفاس، وجوازات السفر امتياز لا يحصل عليه الا أولي القربي.

وكنا نحتاج التواصل مع هذا الخارج. لان ذلك حق للمناضلين اولا، ولاننا نحتاج في معركتنا الى شهود. وأكبر الشهود هم الإعلاميون والحقوقيون. وصوت الخارج دائما اكثر ايلاما وتأثيرا من صوت الداخل.

الاخ علي الزروي /الطبيب (فارس/حامد) كان هو الممسك حينها بسجلات الدفتر خانة، وأنا كنت متربصا في ادارته، عرفني بشاب يعمل في مركز الفرز. شاب حيي، من احدى قرى الساحل. نسلمه مظروفا يحتوي المناشير والمعلومات والتوجيهات. يسلم بحياء. لا يتكلم، لا يسأل. ويمضي.
بعد لحظات يمرر المظروف دون ان يمر على الرقابة. وبعد ايام قليلة نعلم بوصول الرسالة الى اَهلها. كأنما تحرر جزء منا من سجن المتابعة.
لم يكن غبيا ليجهل ثمن المغامرة التي يقوم بها ومع ذلك فعل. لم اعرف اسمه. لم اره بعد الثورة. لم يتصل ليذكر بمآثره، وهي حقيقية وربما فعل غيرها.
لذلك احس بوخز الضمير. إن لم يسأل هو أما كان علي انا ان اسأل.
لهذه الثورة آباء. وان قصرنا فان ضميرنا لم يمت.

أيها الجندي: تحياتي واعتذاري
أخوك

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock