مقالات

الأحزاب والسعي بين “السلطة والمحافظة عليها”

بشير ذياب

السياسة عند العرب لا يمكن تعريفها بمفاهيمها عند الشعوب المتطورة، السياسة عند العرب هي “ترويض للركوب” فهي مصدر من ساس يسوس سياسة فيقال ساس الدابّة أو الفرس إذا قام على أمرها من العلف والسقي والترويض والتظيف وغير ذلك، ككل الثقافة اللغوية العربية فمصطلح السياسة أخذ من أعماق البادية، من ترويض الدواب للركوب، بما يقتضيه الترويض من علف وحشيش وكذلك من لفحات السوط والعصا واللجام، ومن باب التشبث بالهوية العربية فإن الممارسة السياسية لمنظومة الحكم العربي من المحيط إلى الخليج لم تخرج عن القاعدة اللغوية، وجدلية الترويض والركوب.

ما نشاهده اليوم من مراهقة في الممارسة السياسية هو دليل قاطع على أن السياسة لا تزال بكرا في بلادنا، حين نقول السياسة فنحن في علاقة مباشرة مع أدوات ممارساتها الحديثة التي لا علاقة لها بالمفهوم العربي القديم للمصطلح، بل بالمفاهيم والأدوات الحديثة للدولة من إدارات ومؤسسات ومجالس ومنظمات… السياسة ليست أن تجلس على كرسي الحكم، بل أن يكون لك القدرة على تسيير هذه الجيوش الناعمة بكفاءة عالية ووفقا لبرامج إستراتيجية ومرحلية يفترض أن تكون الأحزاب أنتخبت من أجلها، ولكن، ورغم ما يدّعيه بعض الأحزاب من أن شعبنا العظيم له قدرات “ذكاء جماعي فائق” فإن مستوى نضجه السياسي لا يزال بكرا كما السياسيين، فلا الشعب العظيم إنتخب أحزابا لبرامجها، ولا الأحزاب كانت تملك بعدا إستراتيجيا لممارسة الحكم، فالأحزاب رفعت شعارات عاطفية، والشعب العظيم كان اكثر عاطفية وهو في خلوته لممارسة حقّ ضاع وسط زحام الأزمات الخانقة التي تتخبط فيها البلاد.

بعد الخطاب الأخير للرئيس، واللّغط الذي أثاره يمكننا القول أنّ بلادنا وزيادة على معاناتها الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والإدارية وغيرها التي تجمع عليها جميع الأحزاب والمنظمات، فإنها تعاني أكثر من معضلة تاريخية وهي هوس السلطة، وحتى الحديث عن الخوف عن المسار الديمقراطي والحريات العامة سواء من السلطة أو المعارضة فالهدف منه ليس تحقيق الديمقراطية بما تقتضيه من أدوات بقدر ما هو المحافظة على السلطة بما تتيحه الديمقراطية من سطوة لمن هم داخلها أو الوصول إليها بما تقتضيه الديمقراطية من حريات لمن هم خارجها، وفي هذا المناخ السياسي المحموم بفوبيا “المحافظة أو الوصول” يذهب الغلابى في الكامور وغير الكامور وقودا لسراب يحسبونه ماءا حتى إذا جاؤوه لم يجدوه سوى وطنا تمزّقه الشركات النفطية والبترولية الكبرى بشراهة، كهارب من الرمضاء إلى النار.

دون الخوض في التفاصيل التي لا تزيدنا إلا إرباكا، أقول لو أني خُيّرت بين دولة ضعيفة تحترم الحدّ الأدنى من الحقوق، ودولة تتنازعها الميليشيات المسلحة، فإني سأختار الأولى لأنّي على ثقة أنّ كلاهما لا يستطيع وإن إدّعى أو تمنّى أن يحقّق السيادة الوطنية أو أن يحمي ثرواتنا الباطنية، لأن هذه الأهداف تقتضي أحزابا سياسية في الحكم كما في المعارضة تدرك جيدا متطلبات السيادة الوطنية والأمن القومي وقادرة على وضع برامج إستراتيجية ومرحلية لهذه الأهداف السامية، التي لا تزال أحزابنا تسير بإتجاهها المعاكس.

لو كانت أزمة البلاد تحلّ بتغيير الوزراء والحكومات لحلّت منذ سنوات، على القائمين على أمر البلاد أن يدركوا أنهم يجرّبون المجرّب، وأنه لا طائل من وراء تغيير الحكومة أو الوزراء، كما انه لا طائل من سكب البنزين على النار، عندما نعين وزيرا يفترض أن يكون هناك برنامجا شارك في إعداده مع حزبه، وفوضه حزبه لأنه الأقدر على تنزيله، ويفترض كذلك أن تكون الإدارة وهي أداة تنزيل كل برامج الحكومة لها القدرة على الفعل والحركة بكفاءة، لكن حين يوضع الوزير دون برنامج، فهو عندها سيفتّق مواهبه في تجريب ما لا يجرب، وإذا أضفنا الخلل الذي تعاني منه الإدارة في كل مستوياتها فإن الحديث عن الوزير أو الحكومة يصبح خارج السياق، وبهذا الخصوص قد يحسب لحكومة الصّيد أنها إستطاعت بطريقة أو بأخرى حلحلة المشاريع المتوقفة منذ 2011 بسبب التعطيلات الإدارية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock