يوميّات شاب تونسي مأزوم..
جلستُ إليه، فوجدته ينتقد الحكومات المتعاقبة كعربات القطار، بحرارة ومرارة واندفاع، فقلتُ في نفسي: ليس هو أوّل من فعل ذلك، والنقد لا يضير، بل هو من أقل حقوق المواطن التونسي، حق الصراخ!
ثم انتقل إلى معارضيها؛ فأمطرهم بحجارة من سِجّيل، فقلت في نفسي: وجهان لعملة واحدة! لعلّه يسكت هنا..
ثم انتقل إلى الثورة وما حولها، والنظام القديم وتفرّعاته، والأحزاب القديمة والجديدة، فأتى عليها عن بكرة أبيها، ووصل معهم إلى الجدّ الخامس..
ثم انتقل إلى الشيوخ والعلماء فاتّهمهم بالدروشة والأخونة والماسونية والصهيونية والمؤامرة العالمية، ثم ألغى لهم حقهم في الوجود بدعوى العصريّة..
ثم عرض عليّ مثالا عمليًا لصاحب مصنع، فانتقده واتهمه بالشّح والبخل والجشع.. بل والرأسمالية المتوحشة!! ثم انتقد منتقديه، وأتى على منتقدي منتقدي منتقديه… (تذكرت عندها السنفور غضبان)!
وبعد أن عمّم حكمه على كل رجال الأعمال وعلى كل المشاريع وكل المسارات، وبعد أن أحكم الصورة السلبيّة على المشهد كله، أحاطه بإطار شرعي وإطار عِلمي رياضي، تجعل ما قاله هو متَعيّن الصواب، تام المصداقية، ليس فيه خلل ولا فراغات… وأننا الآن وجب علينا انتظار إما الحرب العالمية الثالثة أو خروج المهدي ونزول عيسى عليه السلام!!!أقول إلى إخواني وأصدقائي الشباب: إن التحرك في مِضمار الحياة وبنائها يحتاج منا إلى الوعي بما نفعل والوعي بما يواجهنا، وخاصة معرفة كيف نتصرف في منعطفات ومنحدرات وصعوبات الحياة وتحدياتها.
الكثيرُ منا، تدفعهم الغيرة على بلدهم وعلى قيمهم؛ فيدخلون معترك الشأن العام.. يبدؤون بهمّة عالية وطموح رائع وروحانيات كبيرة تلامس سدرة المنتهى.. لكن، سرعان ما تنكسر سهامهم على صخرة المشكلات العارضة التي لا بد منها، والتحديّات الطَّبعيّة (لكل واحد منا طبيعة وطبع مختلف عن الآخر)، والاعتراضات من الآخرين، وتكدير البيت والأسرة (اللذان يريدانك خالصا لهما)، ومشاكل التوفيق مع العمل والمهنة والدراسة… بل، وفي بعض الأحيان النفس التي لا تطاوعنا في الخير.. عندها يجب الصبر والتصبّر وعدم التولي عند الزحف، ورمي المسؤوليات على الآخر، والنظر من أعلى الربوة والاختصاص في النقد الألكتروني!!
تونس والعالم العربي.. بل والأمة الإسلامية.. بل والكون برمّته والإنسانية قاطبة.. محتاجون، اليوم أكثر من قبل، إلى الشباب المتعلم المثقف المتوازن الشريف، محتاجون لنا في العمل الاجتماعي والفكري والتربوي والعلمي والسياسي… فإن لم نتقدم الآن فمتى؟! ولا ننسى أن الله جعل في حركة الشعب وتشييد الأوطان وبناء الحضارات سنَّة لا تقبل التغيير وتأبى التبديل؛ ألا وهي سنة التدافع!!
كما أنّ الجبال الشاهقة تكونت من مليارات الحصى الصغيرة جدا، فلا يحقرنّ أحدٌ منا عمله ولو ظهر له صغيرا، وتذكروا ذلك العامل البسيط الذي كان يحرس مخبرا للتجارب النووية، عندما سؤل عن عمله، فردّ:
«أنا أسهم في صناعة مولدات نوويّة»!!