قانون ابن خلدون في الإنحطاط
أبو يعرب المرزوقي
في “التأله” أو في استبداد السياسي والمثقف
وضع ابن خلدون علامة يحدد بها مرحلة سقوط الدول غاية للمرض الذي لا شفاء منه. وتتعلق بأخلاق النخب التي تعتمد عليها أنظمة حكمها لتحلل العصبية، ويربط المسألة بالسعادة والشقاء الدنيويين، أو بصورة أدق، بالموقف الخلقي منهما ومن طرق تحقيق الأولى، أو الوقوع في الثاني، نتيجة لرؤية المثقف لذاته.
فلنورد النص: {فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته. فتجد كثيرا من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه ويتزلف إليه بوجوه خدمته ويستعين على ذلك بعظم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه حتى يرسخ قدمه معهم وينتظمه السلطان في جملته فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة. وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره ويجرون في مضمار الدالة بسببه. فيمقتهم السلطان لذلك ويباعدهم ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذي لا يعتدون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع. وإنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليه الوجوه والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم ولا يزيدهم ذلك إلا بعدا من السلطان ومقتا وإيثارا لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة. وهذا أمر طبيعي في الدول.}.
وحتى نفهم هذا القانون وكونيته، وهو معنى اعتباره طبيعيا في الدول، لا بد من تحديد عنصريه وعمومه في كل سلطة سياسية، من أدناها في الأحزاب إلى أعلاها في الدولة.
عنصراه:
1. النخب وما ينتج عن رأي المبرزين منهم في أنفسهم من أنفة تبعدهم عن السلطان.
2. العصبية التي مهدت للسلطة كما في الاحزاب أو الحكم.
والعلة نفسية خلقية في الحالتين: نفسيا فسرها ابن خلدون بحب التأله عند الإنسان عامة {ويحصل له (للمعتد بنفسه من المثقفين) المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله. وقل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال والترفع عليه إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كله من ضمن الجاه فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبين لك مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من أحسانهم}.
والغريب أن ابن خلدون يحمل أصحاب هذا الخلق (الترفع عن المذلة لصاحب السلطة) مسؤولية سقوط الدول: {ولقد يقع في الدول إضراب في المراتب من أهل هذا الخلق ويرتفع كثير من السفلة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك}، وهنا يأتي الوجه الثاني من التأله وهو نفسي وخلقي في الاستبداد السياسي.
وإذن فالعلة النفسية الخلقية، التي يصفها ابن خلدون بالتأله، هي الاستبداد لدى المثقف ولدى الحاكم: كلاهما يتأله فيترفع بسلطان أو بلا سلطان، فينتج صراع في الجماعة يستفيد منه المستبد باعتماد الحثالة ضد المتميزين، وإذن فالمتميزون حسب ابن خلدون، مسؤولون مثل الحاكم على انحطاط الأمم.
فلنصغ هذا القانون: علة انحطاط الأمم وسقوط دولها “نفسية-خلقية”، هي “التأله” أو الاستبداد، وتتعين في صاحب الرمز (المثقف) وفي صاحب الفعل (السياسي)، لكن الثاني يستطيع، بما لديه من قوة القهر والاستبداد تبعية الحثالة، تحقيق تألهه، والأول لعجزه يناله المقت ويعزل، فيسهم بتألهه في سلطان الحثالة.
وطبعا، فهذا القانون الخلدوني صحيح في الأنظمة الاستبدادية، وهو في الإسلام لم يصبح ساريا إلا بعد انتقال الأمة إلى حالة الطوارئ بعد الفتنة.
ولما كنا ما نزال في هذه الوضعية، حتى بعد الثورة، فإن كلام ابن خلدون ما يزال صحيحا: لأن ما يجري في المسرح السياسي والثقافي خاضع لقانونه.
يكفي أن ترى حال الأحزاب، والحكومة، ورئاسة الدولة في تونس أو في مصر أو في أي بلد عربي، حتى تعلم أن القانون الخلدوني هو السائد فيها جميعا.