دروس الديمقراطية الفرنسية
خليل كمون
إذا كان الإغريق أول من طبق الديمقراطية في القرن 4 ق م، فان الفرنسيين لازالوا محافظين على بريقها في العصر الحاضر وفي انتظار تشكل المشهد الديمقراطي لدى المجتمعات العربية، نسوق عدة ملاحظات حول الانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي تبرز تجذرها كقيمة في وعي المواطن وليست مجرد قوانين تنظم الحياة السياسية.
ما لاحظه أكثر المتابعين هو أن العمل السياسي أصبح أكثر نجاعة خارج الأحزاب والإيديولوجيات القديمة التي تقسم المجتمعات بين يمين ويسار، ولان مازالت عديد الفئات تؤمن بذلك، فان فوز “إيمانويل ماكرون” بالمرتبة الأولى بتزعمه لحركة لا يتجاوز عمرها السنة أمام تيارين تقليدين التيار الاشتراكي والتيار الديغولي اليميني، يبرز أن المجتمعات الحديثة لم تعد تؤمن بالخطابات الإيديولوجية ولا يمكن الوصول إلى تفكير الناخب إلا عبر التجديد والبحث عن بدائل. حتى الأحزاب التي تعتبر اطر للعمل السياسي وآلة جلب الأصوات والدعم الانتخابي فقدت بريقها أمام تطور تكنولوجيات الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي وثورة التكنولوجيا، بل أن الفرنسيين حتى داخل الأحزاب أزاحوا “ساركوزي” الطامح إلى العودة والوزير “فالس” في التيار الاشتراكي وهو ما يبرز حيوية المجتمع وقدرته على التجديد وتجاوز الماضي والأصنام القديمة.
رغم هذه التطورات حافظ الفرنسيون على ثوابت أساسية في العمل السياسي، وهي أساسا قيمة المواطنة بجميع معانيها إذ مارس الفرنسيون دورهم ولم يكونوا سجناء لاستطلاعات الرأي ولا آلات الأحزاب ولا الصحافة الموالية ولا المال السياسي الفاسد، والأكيد أن تاريخ الفرنسي مع مواطنته متجذر ووعيه بواجباته وإيمانه بحقوقه قديم ويتدعم يوما بعد يوم. ففرنسا ليست حزبا وليست رمزا آو أفكار جامدة بل هي مجتمع مدني يكون فيه المواطن مؤمن بدوره على التغيير ومحور العملية السياسية والممارسة الديمقراطية.
لم يتشكل الوعي السياسي لدى الفرنسيين اليوم بل هو نتيجة تاريخ طويل من التضحيات والتعديلات والأزمات وهو ما اكسبه حصانة مقارنة ببقية المجتمعات الغربية التي تمكنت فيها التيارات الشعوبية والهوائية من الوصول إلى الحكم فسقوط “ميلنشون” واليسار الراديكالي وهزيمة “لوبان” دليل أن الفرنسيين أكثر ذكاء من التيارات والأفكار الشعبوية الناشئة في العالم إذ لا يمكن التواصل بالتطرف والعنصرية مع أحفاد موليار ومنتسكيو وجون بول سارتر…
الديمقراطية كانت أحسن طريق لمقاومة الفساد مجرد شبهات برزت لدى “فيون” رئيس الوزراء الأسبق فما بالك بسياسات تكرس الفساد وقائمة على تبريره وتبييضه الأكيد أن لدى فرنسا ترسانة من القوانين التي تمنع وقوع الفساد وتراقب الفاسدين لكن أحسن عقاب للولبيات الفساد هو العقاب المجتمعي السياسي الذي يترك في تاريخ المسؤول السياسي بصمة لا يمكن أن تمحوها السنين ولا يفكر بعدها أبدا في العودة ولا استعادة الشبكات القديمة…
لم يخف الفرنسيون من الإرهاب الذي استهدف ليلة الانتخابات الدولة الفرنسية ممثلة في رجال الأمن بل كانوا سدا منيعا بنسبة إقبال كبيرة بل مقتنعين تمام القناعة أن الخطابات العدائية والعنصرية هي سبب من أسبابه وان سياسات الغرب عمقت الجراح وان المجتمع الفرنسي منسجم مع محيطه الجغرافي وارثه التاريخي القائم على العدالة وحقوق الإنسان وان كل ممن يحاول إثارة النعرات الاستعمارية والعنصرية لن يمر في فرنسا أبدا…
عموما هذه بعض الملاحظات حول الديمقراطية الفرنسية والتي بالطبع لا يمكن أن نتخذها نموذجا بل يمكن الاستفادة منها إن أردنا بناء مجتمع ديمقراطي ودولة ديمقراطية.