الدكتور محمد الطالبي… هكذا تُهانُ النخبةُ

بحري العرفاوي

الفجر 1 مارس 2015

هذه الأيام كلما دخلتُ القسم سألني التلاميذ: ما رأيك في ما يقوله محمد الطالبي؟ فأسألهم: وهل أصبحتم تشكون في حرمية الخمر والبغاء؟ يجيبون: أبدا ولكن نسأل عن سبب تصريحاته المثيرة تلك؟ فأقول لهم: إن المجتمعات المتحضرة تنتصر لعلاماتها وإن المجتمعات المهزومة تهزم رجالها ومثقفيها وعلماءها. ثم أفصّل: هذا الرجل له اختصاصاته الأكاديمية وهو مشهود له وطنيا وعربيا في مجاله وهذا الرجل أيضا سجل مواقف شجاعة أيام الاستبداد حين كان للكلمة ثمنها فقد أعلن معارضته الصريحة للدكتاتورية وعبر عن استعداده للشهادة من أجل الحرية كان يتكلم في مقر أحد الأحزاب المحترمة بمكبر الصوت وكان الأمنيون يحاصرون المكان.

أما عن أفكار الرجل ومنهجه في التحليل فذاك مجال حرية التفكير وحرية التأويل وهو مجال الصراع الفكري والمناظرات العلمية بين أهل الإختصاص وضمن مسار معرفي وثقافي تكفله الحرية وتستدعيه حركة تطور المجتمعات.

السؤال الحدث هو: ما سر تناوب عدة وسائل إعلام على استضافة الدكتور محمد الطالبي وهو رجل في سن متقدمة يفقد معها الإنسان قدرا كبيرا من توازنه الذهني والنفسي بل وقد يدخل حالة “الخَرف” فيقول ما لا علاقة له بالمنطق والعلم والحقيقة والأخلاق فيكون بذلك مثارا للسخرية والتندر ويفقد ما كان يتمتع به من وقار معرفي وشرف نضالي؟

ألم يكن يعلم مستضيفو الرجل حالتَه الصحية والنفسية وحتى الذهنية؟ هل كانت البلاد فعلا تحتاج من يُفتيها في الخمر والبغاء؟ وهل وجد التونسيون حلولا لمشاكلهم الحقيقية من تنمية وأمن وعدالة وتعليم وصحة ولم يبق عندهم من مشكلة سوى رأي سديد وموقف جديد فيما حرمه الشرع وما هو معلوم من الدين لدى عامة الناس بالضرورة؟

هل يظن مستضيفو الرجل أنه فعلا قادر بما “هرف” به على أن يُغير قناعات الناس والحال أن حتى المدمنين على “المعصيتين” يُقرون بتحريمها ولكنهم يعترفون بكونهم يضعفون نفسيا على مقاومة شهواتهم وغرائزهم دون جرأة على شرع الله؟

أعلم أن عقلا مدبرا ومختبرا واحدا هو الذي يُدير المسرحية الساذجة لتحقيق عدة أهداف لا تنطلي على العامة ناهيك عن النخبة.

– الأوحال السياسية والإجتماعية التي تغرق فيها “الماكينة” الصدئة تحتاج زيوتا كي تتحرك… تلك الزيوت تُستعصرُ عادة من أجساد المغدورين.. يُخشى أن يكون مُختبر الجريمة بصدد الإغراء بالرجل عبر عرضه “عاريا” أمام العامة يهرف بما يُغضب الناس وما يُهيجُ “المتشددين” فيتصرفون خارج معايير الشرع والعقل والقانون.. وفي أدنى الحالات ستثور النوازع الغضبية تعبر عن نفسها تعبيريا أو في شكل مسيرات واعتصامات تتبعها عملية تصفية للرجل يقوم بها أصحاب النوايا السيئة.

لقد سبق أن نبهتُ إلى مثل هذا الأسلوب حين تعرضتْ الإعلامية مية القصوري إلى هجمة تشويهية وتحريضية بسبب ما استُدرجت إليه من مواقف وتصريحات غير مدروسة وقد تم فعلا فتح تحقيق قضائي في تلك التهديدات وعيا بوجود مخاطر حقيقية ولعبة وسخة.

إن قيمنا تلزمنا باحترام الكبار خاصة إذا ما بلغوا من السن عُتيّا فلا نسخر من شيخوختهم ولا نعبث بخرفهم ولا نَعْرضهم في الإعلام أمام العامة فيكونون مجالا للتندر والتفكه أو الشتائم والتهديد… إن عرض الطالبي للسخرية إنما هو عمل غير مسؤول بل يرقى إلى مستوى الجريمة الأخلاقية وربما القانونية إذا ما ترتب عن عرضه ذاك أذى وتعريضٌ لسلامته للخطر… وإن من عرضوه إنما هم متهمون في شرفهم المهني وهم يعلمون أنهم لا يُقدمون للمشاهد وجهة نظر لأن الأفكار إنما تُنتجها العقول المتزنة إنما هم بصدد عرض تداعياتِ رجل يعلمون أنه فقد الكثير من سلامته الذهنية والنفسية بسبب تقدمه في السن ويعلمون ما صرح به منذ أكثر من سنة من كون المرأة التي “تخدم” على نفسها و”تُدخل فلوس” لا حرج عليها وأن من يذهب إلى السوق ويشتري جارية يضعها في “الزنبيل” ويجربها وإذا لم تُعجبه يبيعها ويشتري غيرها.. والغريب أن مثل هذه التداعيات المَرضية -لا أقول مواقف- لم تُثر حمية الحداثويين العقلاويين أصحاب الفكر النسوي فلم ينددوا لا بالقناة ولا بالطالبي وهم الذين أقاموا المجلس التأسيسي بسبب مفردة “تكامل” -لستُ مع التكامل ولا المساواة أنا مع الحُلول-.

حين تغيب المشاريع الكبرى تشتغل العقول والأنفس الصغرى وحين يعجز العاجزون عن صناعة الحياة يلجئون إلى تقليب الموتى.

Exit mobile version