أعادت الثورة لنا الأمل في تحقيق ما عجزنا عن تحقيقه قبلها، كنّا نعلم أن تحقيق الكثير من أهدافها يحتاج إلى النظر العميق والعمل الرشيد وفق رؤية إستراتيجية طويلة المدى، واضحة الأهداف ومستجمعة للأسباب. ولكن هدفين من أهدافها تحققا وكانا يجب أن يتحققا في الإبّان لأنّهما ركيزتا المسار التحرّري: الحرية وتحطيم جدار الخوف. لم تستطع الثورة المضادة أن تنال من الحرية بحكم حاجتها إليها وبحكم خوفها من ردة فعل الشعب الذي تذّوق من طعمها ولكنّها بدأت بإعادة بناء جدار الخوف المنهار. بدأ مهندسوها بالتخويف من تكرار السيناريو المصري السيئ الذكر. تجمّعت قوى الثورة المضادة وأصحاب الثارات القديمة وتعالت أصواتهم نادبة ومولولة ولما أعياها أمرها ورفض جيشنا الباسل الانخراط في مشروعها الانقلابي بكت البكاء المر على الوحدة الوطنية حتى صدّقوها وبنت خيمة الحوار الوطني الذي نفذت داخلها ما خططت له خارجها.
تزامنا مع ذلك بشرت بوعود كاذبة تعلقت بـ”قفة المواطن” التي سيثقل حملها ويخف ثمنها، فكان التخويف من الجوع الحجرة الثانية في جدار الخوف. الحجرة الثالثة كانت التخويف من فقدان الأمن وغلبة الفوضى فكان الاستثمار في الإرهاب والتهريب بشكل ناجع حيث خلطت بين الحق والباطل لتنتج رواية يصعب تكذيبها حتى على العقول الحصيفة. استفادت من جهلة الدين ومحرومي الدنيا فحولتهم إلى “ماعون صنعة” نفذت بهم مخططاتهم في إنتاج ثقافة الرعب وصنعت منهم وبهم أبطالا متوحشة للمآسي المروعة.
ولكن الأخطر من ذلك كله أنها استطاعت أن تشرك في هذه عملية التخويف المُحبكة ذات الأبعاد المتكاملة والمتقاطعة، ضحايا الديكتاتورية التي أطاحت بها الثورة بل وضعتهم في مقدمة المشهد حتى يكون لصوتهم وقعا ولفعلهم ركزا. ارتبكوا في الأول فغلب على أصواتهم التلعثم وصعوبة الانسجام مع أنكر الأنغام ثم صُقلت تدريجيا حناجرهم فانطلقت صادعة وفق البرمجة المطلوبة حتى جاء أمر قانون تبييض الفساد فرعوه وليدا في محضنة المصالحة الوطنية وهبّوا للدفاع عنه في المجالس الخاصة ولمّا أعيتهم حجة الدفاع عنه أمام الشعب والإقناع به قالوا الآن وقد رفضتهم قانون “الخلاص الوطني” فأبشروا، وليس كل البشرى خير، بيوم تعودون فيه إلى المعتقلات والسجون والمنافي ولكم في ذلك ذكرى ليست ببعيدة.
أصبح التخويف من جنس آخر، التخويف من السجن والتعذيب وسياحة المضطرين في أرض الله الواسعة. نسوا أنّهم بذلك يُقدّمون الحجة الأقوى على ضرورة رفض هذا القانون السيئ الذكر لأنّ مُجرّد رفضه حسب قولهم سيفتح باب جهنّم على مصراعيه ضد من رفضوه، وعليه فنحن أمام نظام سيكون أكثر ديكتانورية من الذي قامت عليه الثورة يجب مقاومته قبل أن يشتد عوده ويعيدنا إلى المربّع الأول ومن أشكال مقاومته وردعه رفض قانون تبييض الفساد.