الفقيد الطالبي كان مبدّدا للدّين ولم يكن مجدِّدا له

سليم حكيمي

وصف لفيف من الإسلاميين لمحمد الطالبي بالمفكر الإسلامي مفارقة عميقة تحكي عمق تزييف الوعي، شبيهة تماما باقتناع محجّبات بالانتماء الى “حزب العمال الشيوعي التونسي” الذي يعتمد المادية التاريخية منهجا ويرفع شعار الثورة البلشفية. عقدة مستعصية عن الحل حقيقة: الإسلاميون لازالوا تحت وطأة صعقة الاستبداد، وسنوات القهر والجبر غائرة الأثر فيهم، فيقف الإسلامي بسجنه ونضاله وسنوات جمره العشرون أمام علماني يساري وكانه مذنب وعليه أن يثبت انه حداثي يعيش حريته بإسلامه وإسلامه بحريته… وحزب علماني حداثوي تخاصم أنصاره بالهراوات واخضر الشقُوفات كقبائل “الزُّولو انكاتا” الأفريقية الولعة بالحرب، يطلب من غيره إثبات انه حزب مدني ؟

نص وحيد ليساري كفيل برفعه -عند رهط من قومه- الى رتبة كاتب، وكتاب واحد الى مصاف مفكّر، ولحن واحد الى مرتبة موسيقار، وقصيدة يتيمة تسمو به الى سدّة شاعر… عرفتُ السياسة منذ سنة 1982، فجر الشباب، ولم أر على وجه الدّهر يساريا يعلي من شان اسلامي أو يصفه بالمفكر حتى وان كانت كتبه مترجمه الى لغات العالم، “وِلِّي يلقى قنّاص يجيبهُولي” مثل ما قال الباجي. ولكني رايت اسلاميين يكبرون من شان الصّغار ويصغّرون من شان الكبار حتى وان كانت اعمالهم هدما لما هو معلوم من الدين بالضرورة، وكما ان من شروط التقدم الوعي بالتخلف، فمن شروط الوجود خوض معارك الثقة بالذات لانه المقدمة الاولى لمعركة بناء الذات. ان الفاقدين الثقة بانفسهم لا يمكنهم ان يتقدموا ولو على مستوى التفكير ليكونوا شيئا مذكورا. ولن يثق الناس بنا قبل ان نثق بانفسنا وطرحنا. قال ابو المتنبي :

وتكبر في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم

وقال النبي الكريم “ولا تصاحبنّ من لا يرى لك من الفضل بمثل ما تَرى له”. ورُويَ عن عمر بن الخطاب: (ثلاث يهدمن الدين زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مُضلون) والطالبي كان مبدّدا للدين ولم يكن مجدّدا. الاستشراق الغربي الكلاسيكي اختراق للنص الديني من الخارج، والقرآنيون اختراق له من الداخل، والنتيجة واحدة وليست الف سواء أسلمت النية أم خبثت الطويّة، لخطّة غربية معرفية محكمة تروم التفجير من الداخل الإسلامي وعلينا الانتباه الى الفخ، والحبل على غارب التّشكيك في الذات والنص المؤسّس للجماعة للامة والدولة والحضارة والمسير والمصير.
ومن رابه ريب في قولنا، يمكنه ان يسال اهل الذكر من خبراء جامعة الزيتونة ليمِيز خطل الراي من صوابه. وسيدرك ان تونس تقع بين فَكيْ كماشة الروافض والنواصب وزادها القرآنيون -مثل الطالبي- ارباكا، وان الاسلام السائد هو فقط اسلام شعائري او انفعالي دَراوشي بَخوري، اما المالكي الحضاري فقد كان الفقيد احد مهاجميه. وأكبر الخطر ان بلدنا بين مطرقة ثقافة غربية مخاتلة وسندان ثقافة اسلامية مغشوشة ايضا. ولا أرى معنى لمفكر لا تساهم ثقافته في حل التناقضات بل في تعميقها وتنكر ركنا ركينا من الدين وهو السنة. المعرفة سلطة ولا معرفة دون قراءة، لانه لا يرتوي من شرب من كفّ غيره، نخسر التحكّم في الواقع وعلينا الا نخفق في ساحة الجدل ايضا. “ما ترخصش روحك بش الرّخيص ما يغلاش عليك”، واذا انفجر البالون في وجهك فلا تنس انك انت من نفخت فيه يوما اكثر ممّا يجب. ورحم الله الذين امنوا وعملوا الصالحات… فكلنا من آدم وآدم من تراب.
Exit mobile version