أريد في البداية أن أشير إلى وجوب أن نتفق جميعا أن لا أحد ملكا رسولا، ولا أحد منا كذلك شيطانا رجيما، فكلنا فيه مساحة من الخير تشكر، ومساحة من الشّرّ تستر، وللمتحدّثين عن الديمقراطية والرافعين رايتها أقول كوكيل حصري عليها في هذه البلاد أيّا كانت إتجاهاته الفكرية والإيديولوجية أنّ فرعون موسى على جبروته كان يحمل شيئا من الديمقراطية في حكمه، فهو في قانون الأرض كان بإستطاعته أن يقتل موسى (معارضه السياسي)، ولم يكن بحاجة ليوم الزّينة الذي لم يقمه المدّعون لإقامة دولة الحداثة والديمقراطية عند العرب.
بعد ثمانية حكومات منذ الثورة، تقف بلادنا اليوم في آخر المتاهة، حالة من الإنسداد السياسي، مصحوبة بكل أعراض الدفع إلى التوحش، ترهّل على جميع الأصعدة من الإعلام إلى الإقتصاد إلى الصحة إلى النقل… وغليان إجتماعي، نختلف في تقييمه سواء من حيث دوافعه أو مآلاته السياسية والإجتماعية، فعلى قدر إستبشار البعض بهذا الغليان على قدر تشاؤم البعض منه، هكذا حال النخبة، أما العامة من التونسيين فأحسن ما يصف حالهم هو “عزوزة ما يهمها قرص”، إكتفوا بمشاهدة المسلسلات التركية وبعض ما ينشر من غسيل المجتمع على قنوانتنا الفضائية التي نجحت في التطبيع مع كل أنواع الرذيلة والإستهتار وأمعنت في النزول بالذوق العام إلى الدرك الأسفل من قلة الحياء.
بعيدا عن الخلفيات الإيديولوجية، فنحن اليوم متفقون على عدة أمور شئنا ذلك أم أبينا، متفقون على أن الإقصاء لن يكون في متناول أحد منّا ومن كانت تحدثهم أنفسهم أو قرناؤهم أنهم سيرثون فرعون البلاد أو كاهيتها أو زعيمها الملهم نفضوا أيديهم طوعا أو هم كارهون، كما أننا متفقون على أن خوفنا على البلاد كخوف أمّ موسى، دفعنا لنلقي بالثورة منذ يومها الأول لتتربى في حجر شيوخ النظام القديم، ثم ألقينا أقلامنا أيّنا يكفلها، لكن يبدو أننا إن لم نتمكن (ولا أستثني أحدا) من نزع فتيل الإحتجاجات بأمان وإن لم نراجع أنفسنا جميعا ونعمد لجرد أخطائنا منذ جانفي 2011 دون مواربة أو مجاملة لأحد منا، سنبحث في قادم الأيام عمّن يكفل أبناءنا، لكن يبدو أن البعض زيّن لهم غرورهم ونرجسيتهم وأعمالهم كي لا أحمّل الشيطان ما لا يحتمل.
لن نعدّد مصائبنا لأنها كثيرة، ولكن نكتفي بأكثرها كارثية على حياة الناس في رزقهم وقوت عيالهم، لأننا اليوم في عالم القوة الإقتصادية، نحن اليوم لا نعيش عالم المبادىء وحقوق الإنسان وكل الكلام المنمق الذي لم يفلح في إنقاذ اللاجئين داخل أوطانهم من الموت جوعا، نحن نعيش عالما متوحشا يدفعنا بكل حرفية إلى شفير الهاوية الإقتصادية لأنها الفوهة التي تفتح على كل أنواع الجحيم، ولو عدنا بذاكرتنا ووجداننا قليلا إلى الوراء لعلمنا أننا خربنا بيوتنا بأيدينا، تحت شعارات الحقوق الدستورية، وأوّلها حق الإضراب، الذي كان يفترض أن يكون إستثناءا والشغل هو الأصل، إنتقلنا برعاية أكبر منظمة شغلية لنحقق رقما عالميا في الإضرابات والإعتصامات، ألم نقم ليالي حمراء في إعتصام الرحيل، وقد رحلوا، ورحل من بعدهم وجاؤونا بحزب عظيم، وبشرونا بنهضة لم تقدر عليها النهضة وتوابعها، لكن الجزء الأول من مسلسل الإقلاع إنتهى، وحلقات جزئه الثاني توشك على نهاية درامية نأمل أن لا تأتي، هؤلاء أيضا لم يكونوا خيرا من الترويكا، ولم يكونوا مثلها، رغم أن منظمتنا الشغيلة هدّأت أنظمة السير، لكن، بعد إيه ؟ إسألوا من وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق بسبب الإضرابات والإعتصامات المجنونة، فرحات حشاد كان يرفض الإضرابات العامة ونحن تحت وطأة الإستعمار لأنه يدرك أن فاتورة جبن رأس المال يدفعها الفقراء من قوت أبنائهم، هكذا قال لي أحد معاصريه في حسرة على ما آل إليه مفهوم النضال النقابي.
الكارثة الثانية التي هيأت أيضا لكل الكوارث التي تلتها هي الإعلام، وبالذات حرية الإعلام، نحن العرب لنا مشكلة مع مقاهيم المصطلحات، كل مصطلحاتنا غائمة وحزينة، من الدولة إلى الخلافة إلى الحرية إلى النضال… إذا كانت الحرية تؤدي إلى التخريب والدمار والفتنة والتفرقة والإقصاء، فيجب علينا أن نراجع مفهومنا للحرية، الحرية التي تستبيح الذات البشرية في عرضها ودمها ووطنها وقوتها أشنع من كل المصطلحات المنافية للحرية، الحرية سيدي الكريم وأنت تطلّ علينا كل ليلة حتى في بيوت نومنا، تقتضي أن تكون مؤدبا ومتّزنا ومتخلّقا وصادقا ومحايدا… وكل الصّفات التي تؤدي في نهايتها لإحترام الذات البشرية، فما بلغناه من ترهّل في عالم أصبح فيه الرأي العام تصنعه الآلة الإعلامية، وخطوط العرض والطول لسياسة الدولة تصنعها المنظمات غير الحكومية وأصحاب المال، فحتما سيكون لهذا وذاك نصيب مفروض من المسؤولية المدنية والأدبية والأخلاقية على حالة التردّي التي نعيشها اليوم.
أعود في النهاية لأقول أن الإنحدار الذي نعيشه اليوم لكل منا فيه من المسؤولية ولا يجوز لأحد منا أن ينصب نفسه قاضيا علينا ويعلمنا دروسا في الوطنية، وإن كان الدفع نحو التوحّش سواء بعلم أو بجهل أو بسوء نية أو بحسنها مازال على أشدّه فإن الوقت للمراجعات مازال كذلك متاحا، وإذا تجردنا كلنا من هواجسنا ونرجسيتنا وسوء نوايانا وأخلصنا ذواتنا للوطن كجامع مشترك بيننا وأخصّ هنا النخب السياسية والإعلامية والفكرية فإن إمكانية بناء وحدة مقدّسة تكون مآلاتها إعادة بناء وطن جميل لأجيالنا القادمة مازالت أيضا ممكنة، فقط علينا أن نجلس للوطن، بعد أن فشلنا أو نكاد في الوقوف لتونس.