ما زالت الاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بالتشغيل في تونس مستمرة، وكانت انطلقت منذ ما يزيد عن شهر فى اكثر المدن التونسية فقرا وحرمانا، بداية من مدينة الكاف شمالا مرورا بالقيروان في الوسط وصولا الى زخمها في مدينة تطاوين جنوبا، حيث صعّد المحتجون في تحركاتهم بنصب خيام في طريق شاحنات النفط، وفي مطالبهم التى تدرجت من التشغيل والتنمية وحصة من مبيعات النفط للجهة الى مطالب وطنية كبرى كتاميم المحروقات.
وبعد اسابيع من التجاهل الرسمي لتلك التحركات والتعويل على عامل الزمن ودخول فصل الصيف الحار الذي تخبو فيه الاحتجاجات عادة، ولكن مع اصرار المتظاهرين، وازدياد حدة التوتر والاتجاه نحو مزيد من التصعيد، استفاقت الحكومة وقررت جملة من الزيارات لعدد من المحافظات التونسية، بدايتها كانت لمدينة صفاقس كحركة استباقية لاكبر المدن التونسية المعروفة بمعارضتها للسلطة المركزية منذ عهدي بورقيبة وبن على والتى كان لها الدور الحاسم في انجاح الثورة التونسية.
زارها رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووفد مرافق له محملين بما سماه “حزمة من المشاريع” تنفيذا لما تعهد به سابقا من انه لن يزور اي مدينة بمجرد وعود ولكن بالاعلان عن مشاريع حقيقية مرتقبة.
مدينة تطاوين الاكثر توترا هي المحطة الثانية لرئيس الحكومة، والتى جاءها بحزمتها المقدرة باكثر من اربعمائة وخمسين مليون دينار، مع وعود بتشغيل الالاف من العاطلين بالجهة، ولكن اعتبر ابناء تطاوين ان تلك الحزمة ليست اكثر من “حزمة قش وطين”، ورفضوا تلك الوعود فقطع الوفد الحكومى زيارته بصفة مفاجئة وعادت قوافل السيارات الحكومية (الكثيرة) الرباعية الدفع تحت احتجاجات الجماهير الغاضبة.
يتضح اذن ان الازمة الحقيقية في تونس هي ازمة ثقة بين المواطن والدولة ممثلة في سلطتها الحاكمة، اذ اصبح الشعور لدى الناس يتعمق يوما بعد يوم بانها سلطة متعالية ومغرورة، وغير معبرة عن تطلعاتهم وهمومهم، ولا رصيد لها في قلوبهم وعقولهم وفاقدة للشرعية الحقيقية المتمثلة في رضى منظوريها وقبولهم بها، لا تلك الشرعية المهترئة الموهومة التى نراها على شاشات الخداع.
لم يعد التونسيون يصدقون من كذب عليهم طيلة عمر الدولة “الوطنية” الحديثة حتى كتب عندهم كذابا، وذلك حتى لو كان صادقا هاته المرة، خاصة بعد ضخّ كم هائل من الوعود الزائفة خلال الحملة الانتخابية التشريعية والرئاسية الفارطة (2014) من قبل الحزب الحاكم، فتطاوين اليوم تقول للشاهد “لو خرجت من جلدك ما صدقتك”.
كما لن يصدقوا ايضا الاحزاب الصاعدة بعد الثورة رغم عدم تورطها بشكل واسع في تاريخ الكذب السياسي، وذلك لحملات التشويه الواسعة التى قادها ضدها الاعلام “الاسود” بحسب تعبير الرئيس السابق المنصف المرزوقي، حتى اصبحت السياسة لدى التونسي كلمة مرادفة للكذب والنفاق والانتهازية وكل المعاني الخبيثة والماكرة، فافسدوا السياسة تاريخا ومستقبلا واصبح البديل مجهولا ومثيرا للقلق والرعب.
ان المدن الساخنة اليوم اذا ما تركت وحيدة في صراعها فسوف لن يعود لها الشاهد الا بحزم من “الماتراك” والغاز الفرنسي المسيل للدموع، وستضيع كل الحزم وتعود اعوادا متفرقة كما كانت ولن تحقق تلك النضالات والتضحيات اهدافها، لذلك فالمفروض ان تسير كل الطلبات الجهوية المتفرقة الى “حزمة” واحدة من الطلبات الوطنية الجامعة تتبناها التنسيقيات المنظمة لهاته الحركة الاحتجاجية، بما يمكنها من بعث الامل في النفوس وعودة مناخ الثقة والطمانينة لدى الناس.
ويمكن ان تتلخص تلك الطلبات في :
• تشكيل حكومة كفاءات وطنية بعيدة عن كذبة الكفاءات الحزبية متكونة من شخصيات مستقلة تحضى بثقة الشعب وهم كثر.
• ان تضع على اولوياتها استقلال القرار الوطني وسيادة الدولة التونسية على اراضيها وحق تقرير المصير للشعب والتحكم في ثروته واتخاذ كل التدابير اللازمة لذلك على المستوى الوطني والدولي.
• ان تغير من اولويات ركائز الاقتصاد الوطني من القطاع السياحي والخدماتي الهش الخاضع الى قطاعات صلبة ومنتجة للثروة كالفلاحة والصناعة.
• ان تفعل قانون مصادرة الاموال المنهوبة وتسعى الى تنفيذه وتوسيعه لاسترجاع اموال المجموعة الوطنية التى نهبتها المافيا السياسية الحاكمة في العهدين البورقيبي والنوفمبري واسترجاع القروض وهي مبالغ طائلة (عشرات الاف المليارات) يمكن ان تزحزح الازمة المالية الخانقة التى تعيشها الدولة، مع سن قوانين ذات عقوبات قاسية لمقاومة الفساد وتعاملها مع الظاهرة مثل التعامل مع الارهاب للحد من انتشارها مستقبلا.
• ان تسن قوانين للتخفيض في الضرائب الى الحد الذي تصبح معه ميسرة وسهلة الدفع.
• ان تعلن عن اكتتاب وطني (قرض وطني) يساهم فيه كل المواطنين كل بحسب وسعه في الدخل.
• ان تفعل كل ما يلزم لانقاذ الانتخابات البلدية والجهوية القادمة من هيمنة المال الفاسد.
• مراجعة كل التعيينات في سلك المعتمدين والولاة ورؤساء المصالح والمناطق وكل المناصب التى لها تاثير مباشر او غير مباشر على الانتخابات وتعويضهم بشخصيات مستقلة وغير مواليه لاي جهة حزبية.
• ان يكون من اولوياتها العمل على اصدار قانون للتمييز الايجابي بين الجهات يكون بمثابة التعويض الجماعي للولايات او المحافظات الاكثر فقرا وتخلفا كالكاف والقيروان وتطاوين وغيرها.
• ان تسرع بسن القانون المنظم لعمل المجالس البلدية والجهوية المنتخبة مع مراعاة الوضع الخاص للجهات التى لا تزال امكانياتها غير مؤهلة للحكم المحلي بصيغته المنتظرة.
كل ذلك بعيدا عن سياسة “حزم الكذب” التى هي اقرب الى عقلية الرشوة الانتخابية وشراء الذمم، والتى لن تحقق غير ترحيل الازمات الى اجل غير مسمى.