الغرف المظلمة: هي المصالحة لن نرجئها، والشعب: هو العدل نطلبه

صالح التيزاوي

عاد إلى الواجهة، هذه الأيام وبكل قوة الحديث عن قانون المصالحة الإقتصادية. يبدو أن الغرف المظلمة، ممثلة في أذرعها الإعلامية والسياسية، قد ضغطت هذه الأيام ليطفو على السطح مجددا الحديث عن المصالحة، كحتمية اقتصادية، استعدادا لتمرير القانون.

لا شك أن الحديث عن المصالحة، هذه الأيام قد يصرف النظر عن الإحتجاجات الإجتماعية في مناطق متعددة من البلاد ويعتم عن المطلب الرئيس للمحتجين: فتح جدي لملف الثروات النفطية، حيث انتقل المحتجون من مرحلة (وينو البترول) إلى مرحلة جديدة (حقي في البترول).

فهل الدفع بقانون المصالحة إلى الواجهة، هو نوع من تشتيت الذهن؟ أم هو استحقاق، تطالب به الغرف المظلمة نظير دور قامت به في انتخابات (2014)، حان موعد الوفاء به.

إنه لأمر غريب ومؤلم أن يفكر بعض الساسة في العفو عن اللصوص الذين نهبوا المال العام، ويعموا أعينهم عن مطالب الشعب في التنمية، التي ثار من أجلها، ودفع في سبيلها التضحيات الجسام، بلغت حد التضحية بالدم.

أليس من الأمور المحزنة أن ينشغل الساسة بحل مشاكل اللصوص، عوض الإنشغال بحل مشاكل المواطنين: في البطالة، وفي غلاء المعيشة، وحتى في انسداد الأمل؟

قال صلى الله عليه وسلم: “إنما أهلك الذين من قبلكم، كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد” وأقسم رسول الله: “والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”. فما بال الساسة عندنا، يكافئون من قطع التنمية والكرامة عن شعبنا ؟ ويشغلون أنفسهم والرأي العام بالحديث عن مصالحة اللصوص.

ما هي مخاطر تمرير قانون المصالحة ؟

إن كان الذين يدفعون به إلى الواجهة، يرون فيه حتمية اقتصادية، فهو في حقيقة الأمر إجرام في حق شعب دفع ضريبة الدم لإسقاط منظومة الفساد والإستبداد. وإذا كان المطلوب اليوم العفو عن “عصابة السراق” فلماذا قامت الثورة ؟

ثم اليس في العفو عن اللصوص، تمكين للمنظومة القديمة، التي ثار عليها الشعب ذات شتاء من عام 2011 من عودة باتة ونهائية، وإعلان صريح عن نجاح الثورة المضادة؟

ثم من يضمن أن هؤلاء اللصوص سيستثمرون أموالهم في التنمية بعد العفو عنهم؟ مخطئ من ظن يوما أن للص دينا، أو عهدا أو ميثاقا؟ لو كانت نواياهم سليمة لبادروا بالإعتذار للشعب بعد الثورة، ولما أصروا على العودة من باب المقايضة: (المصالحة مقابل الإنخراط في التنمية).

قالت هذه الحكومة عند تشكيلها، أن من أولوياتها مقاومة الفساد… فهل العفو عن اللصوص، يشكل الخطوة الأولى على طريق مقاومة الفساد ؟

لماذا نرفض المصالحة؟ لماذا حملة “مانيش مسامح” ؟

يرى رافضو المصالحة وهم عامة الشعب التونسي، أن العفو عن ناهبي المال العام، يكرس مبدأ الإفلات من العقاب. كما يمثل سقوطا أخلاقيا منقطع النظير، إذ من المعلوم أن اللص كسائر المجرمين، يجب أن يعاقب ولا يكافأ.

يرى آخرون في الإلحاح على تمرير قانون المصالحة تكريسا لتحالف المال والسياسة، وهو تحالف لا يأخذ بعين الإعتبار مصالح الفئات الفقيرة والكادحة، وأن هذا التحالف لا ينتج إلا المزيد من الفساد. (التأثير في الإعلام وفي المحطات الإنتخابية، المضي قدما في الخوصصة).

دعاة المصالحة، وهم المتكتلون في حزب النداء، لطالما رفعوا شعار هيبة الدولة، فهل الرضوخ للصوص يحقق للدولة هيبتها؟ أليس من العار أن يعاقب اللصوص الصغار، ويتم العفو عن اللصوص الكبار؟

يخبرنا التاريخ، أن العدل أساس العمران، فهل من العدل أن تتساهل الدولة مع ناهبي المال العام، ومن أكلوا مال الشعب بالباطل؟ أليس في العفو عنهم ظلم للبلاد والعباد؟ والظلم كما يقول ابن خلدون: “مؤذن بالخراب”.

الأخطر من كل هذا، أن قانون المصالحة يشكل عدوانا على مؤسسة دستورية (هيئة الحقيقة والكرامة) لأن موضوع المصالحة من مشمولاتها، وحدها، دون غيرها. فهل من هيبة الدولة التحايل على المؤسسات الدستورية في البلاد، وتعطيل عملها؟

قانون المصالحة مطلب فئوي، وليس مطلبا شعبيا، مهما اختلق دعاته من أعذار، فهل نحن إزاء سلطة الشعب، أم سلطة اللوبيات الفاسدة، والضاغطة على الدولة، تحقيقا لمصالها؟

ليس لحزب ولا لمجموعة أحزاب، أن يصدروا عفوا عمن نهبوا أموال الشعب، نيابة عنه، مهما قطعوا على انفسهم من وعود انتخابية، فهذا من قبيل “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”.

هل استفتت الأحزاب الداعمة للعفو عن اللصوص الشعب التونسي في رأيه ؟ وإذا قالوا لنا إنهم ممثلون عن الشعب ومفوضون منه، نقول لهم: لقد انتخبكم الشعب وفوضكم لتحققوا له الشغل والتنمية وتحسنوا الخدمات الصحية وتصلحوا قطاع التعليم، وشبكة النقل، وتكرسوا سيادته على ثرواته، حتى تعود عليه بالنفع، لا لتسامحوا من أضر بمصالح الناس، وحكم عليهم بالفقر والبؤس. السيادة للشعب وليس للأحزاب التي تعود للشعب فقط في المحطات الإنتخابية استجداءا لصوته.

إن اللصوص الذين يستهدفهم العفو، هم مجرمون لأنهم سرقوا قوت الفقراء وأحلامهم، وحرموا كثيرين من خريجي الجامعات من أبناء الشعب من حقهم في شغل يحفظ كرامتهم وكرامة أهاليهم الذي جاعوا من أجل أن يعلموا أبناءهم وبناتهم، وهم وراء تفقير البلاد، وإثقال كاهلها بديون سيدفعها الشعب من قوته اليومي، ومن أحلام أبنائه بغد أفضل لن يأتي حتما واللصوص السائبون يعيثون في البلد فسادا.

ما أقبح أن يقال: نعفو عن اللصوص ليستثمروا في الوطن، جاء في الأمثال: “لا يدفع الضيم ذليل”. ونحن نقول: “لا يحقق التنمية لص”، التنمية، يحققها رأسمال وطني،يقدر أصحابه أنهم مستخلفون من الله في الأرض لإعمارها قبل أن يكونوا جامعي مال.

Exit mobile version