تدوينات تونسية

المملكة المتهالكة

بشير العبيدي
#رقصة_اليراع
حدّثني رواةُ الإخبارِ عن دهاةِ الإبصار قالوا : كان ببلدٍ خصبٍ معتدلٍ نهرٌ عظيمٌ يَصبُّ ماءه العذب الرقراق في سهلٍ ممتدٍّ كبيرٍ. وفي ضفّةٍ من ذلك النهر، استوطنت قبائلٌ بني كلبٍ، واستوطنت الضفة المقابلة لها قبائل أخرى يُقال لها بنو ضبع.
وكان الدين الرسمي المنصوص عليه في دساتير القبيلتين هو العداوة الأبدية بين الضفتين. ولذلك ترى بني كلب ينشّئون جراءهم على بغض بني ضبع، وترى بني ضبع يوطّنون ذراريهم على كره بني كلبٍ. ولقد منعوا السفر بين الضفتين، إلا بتأشيرة تعطى قطرات كما يعطى دواء العيون. فلا الكلاب تستطيع اجتياز النهر العظيم جهة الضباع، ولا الضباع تستطيع السفر جهة الكلاب، مع أن كل ضفة تعلم أحداثها في المدارس بأن الكلاب والضباع يعودون لأصل واحد، ويتكلمون لغة واحدة، ويشتركون في دين واحد هو دين الكره.
وكان في ناحية من الأمصار النائية قبائل شتى يُقال لها بنو ذئب، تعيش في مناعة، تتسالم زمنا وتتحارب أزمانًا، وتربطها بالقبيلتين معاهدات صداقة وتعاون وثيقة. وكان كلما جاء ذئب في بلاد الكلاب أو بلاد الضباع، استقبلوه بحفاوة العرس وأكرموه بمأدبة العيد، ورقّدوه رقدةٍ العريس مع أصبح جرائهم، وهادوه في الوداع بهدايا العشاق، وودعوه عند نهاية الزيارة بمواكب الملوك. أما إذا تزاور بنو كلب وبنو ضبع بينهم، فإنهم يطلقون مهابيلهم ومجانينهم على المتزاورين بينهم للتحاجر والتدامغ والتّنابز.
واستغل بنو ذئب هذه الثقافة الكلبية وهذه الثقافة الضبعية، فكانوا يأتون لبني كلب وبني ضبع يحرّضونهم على بعضهم البعض، ويتوسّلون لذلك من أجل أن يغفّلوهم ويستخرجوا من أرضهم الثروات الباطنية الطائلة، يأخذونها بثمن بخس، لقاء حماية هذه الضفة من الضفة المجاورة، ثم يحمل بنو ذئب تلك الثروات إلى بلادهم للتحويل والتصنيع، ويرجعونها إليهم بأغلى الأسعار، كمنتجات في العلب.
وكانت بنو ذئب، في سعيها الدّؤوب إلى تأبيد هذا الوضع قصد الاستفادة منه، تبيع لحكام القبيلتين العدوّتين الأسلحة والآلات لكي يتقاتلوا بينهم في الحروب والنزاعات. وكان بنو ذئب يشرفون على مفاوضات السلام كلما نشبت حرب، ويشرفون على نشوب حرب كلما خمدت معركة، وينصرون بني كلاب إن غلبهم بنو ضباع، وينصرون بني ضباع أن غلبهم بنو كلاب، تحت مظلمة هيئة دولية أنشأوها للتمويه. واستمر الأمر عصورا ودهورا، وتضخمت كتب التاريخ بأخبار الحروب والمجازر وأيام بني كلب وأيام بني ضبع، حتى كره صغار الكلاب وصغار الضباع بلادهم وثقافتهم، وطفقوا يغادرون زرافات ووحدانا في اتجاه بلاد بني ذئب حيث الأمن والاستقرار واحترام حقوق الحيوان.
وكانت سلحفاة عظيمة خرجت من النهر واستوطنت زمنا في بني كلب وزمنا في بني ضبع، وهالها ما رأته من انهيار البلدين وفساد الحكم وضياع الشعب، ففكرت مليًّا في الأمر وتدبّرت ونظرت وحققت، إلى أن عرفت سبب الفساد الأصلي في تلك البلاد، وهو انعدام التساؤل وفقدان القدرة على تمييز الحسن مِن القبيح، لأن الذراري منذ ولادتهم كانوا يلقنونهم الإجابات من دون أسئلة، فصاروا لكثرة التكرار يعيدون إنتاج ما عاشوا عليه مع آبائهم ويفرضون أخلاقهم على أولادهم.
ثم اهتدت السلحفاة إلى حيلة عجيبة، وهي أنّها ذهبت لبعض ثقاتها من بني كلب، وزعمت لهم أنها شعرت باقتراب الأجل المحتوم، وأنّ والدها ترك لها كنزا عظيما في باب السماء الواقع ببلاد بني ضبع، وأنه من أجل المعراج إلى الفضاء وإنزال ذلك الكنز كي يستفيد منه بنو كلب لا بد من بناء جسر عظيم على النهر الذي يفصل بين الضفتين لكي تذهب تحت باب السماء وتقيم موكب استنزال الكنز، وزعمت أنها برّية لا تعرف السباحة لكي تقوم باجتياز النهر الفاصل بين البلدين، فوافقوها طمعا في كسب الكنز العظيم. ثم ذهبت السلحفاة الحكيمة عند ثقاتها من بني ضبع، وزعمت الزعم نفسه بشأن الكنز وضرورة بناء للجسر نحو الجهة الأخرى ففعلوا طامعين. فلم تمض مدة حتى صار على النهر جسران، وصار شباب الكلاب ينتقلون ألوفا على جسرهم ناحية الضباع، وصار صغار الضباع ينتقلون ألوفا إلى بلاد الكلاب من خلال جسرهم، وكل واحد منهم ينتظر أن تقرر السلحفاة اليوم الذي بكون فيه موكب كشف واستنزال الكنز من باب السماء.
عند ذلك، جاءت السلحفاة لبني كلب وفتحت رقعة قديمة متهالكة مكتوب فيها (فتح الكنز مرهون في معرفة سبب عداء الكلاب للضباع)، ثم عملت الحيلة نفسها مع بني ضبع. وكانت المفاجأة العظيمة أن شعبي الكلاب والضباع اكتشفوا أنهم لا يعرفون أصلا سبب العداوة الممقوتة بينهم، ولم يعثروا على سبب وجيه يصلح أن يفسر أصل العداوة، كما اكتشفوا من خلال تسلسل العلل والتسآل، أن العلة العميقة لوجود العداوة بين الشعبين هي الجهل المطبق والتفريط في العقل وحسن التدبير. وكل ذلك أتاح لبني ذئب أن يمارسوا خبثهم وتحريضهم كل طرف على استئصال الطرف الآخر.
فلما رأت السلحفاة بداية للوعي، جمعت عقلاء بني كلب وعقلاء بني ضبع، وأعلنت لهم عن مكان تواجد الكنز العظيم الموروث، وهو في حدود الغلاف الجوي لكوكب يدور في فلك الارض، وأنه من أجل التمكن من ذلك ينبغي على الجميع بناء المدارس والجامعات والمختبرات من أجل تعليم الشباب العلوم الرياضية والهندسية والأخلاقية طمعا في صناعة مركبة عظيمة للسفر إلى الفضاء واستنزال الكنز العظيم. فانتشر التعليم في كل مكان، وكثرت الصناعة وبدأ الاستغناء تدريجيا عن خدمات بني ذئب الذين أحسوا بالخطر فهاجموا المملكتين، وفعلوا الأفاعيل، فتحالف الكلاب والضباع لصدهم، وقطعوا أرزاقهم من المواد الأولية، فلم يستطع بنو ذئب حيلة.
ثم لما رأت السلحفاة أن بني كلاب وبني ضباع هدأت بينهم العداوة، وكثر التزاور بينهم، وقلّ الهرج في بلادهم، وانتشر التعليم والثقافة وسادت الأخلاق، صلّت لربها صلاة الشكر والوداع، ثم استغلت وقت غفلة من بني كلب وبني ضبع، وغادرت تلك المملكة المتهالكة التي استقام شأنها، وارتمت في النهر العظيم وسبحت في أعماقه بحثا عن أفق للحياة جديد.
وما كانت السلحفاة ترغب في أن يرها أحد وهي تغادر تلك البلاد، خوفا من أن يتخذها أهلها معبودة، لعلمها أن عبادة المخلوقات من دون الخالق سبب من أسباب هلاك الأمصار وموت الأحرار.
رجب 1438
#مَعينُ_الثّقافةِ
كَلِمَةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وَكَلِمَةٌ تَصْنَعُ أَمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock