نظّم مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدّبلوماسيّة ومنتدى العائلة الدّستوريّة ورشة عمل تحت عنوان “المصالحة الوطنية الشاملة الأبعاد والآفاق” ويتبيّن من خلال الوجوه الحاضرة أنّ المقصود بالتيارين عدد من الوجوه النّهضويّة وعدد من قيادات التجمّع المنحلّ ومسؤولي النظام السّابق الذين قبلوا بفكرة الالتقاء ومبدأ المصالحة بين التيارين.
وفي إطار إبداء الرّأي حول هذا الجدل الذي تواتر منذ ما سمّي بلقاء “الشيخين” حتّى لا يكون هذا النّزوع التّصالحي مجرّد مبادرة سياسيّة ظرفيّة بدون أفق.
يمكن أن نجمل الشّروط التي إن تحقّقت يمكن أن تجعل من هذا الحوار بين التيارين مثمرا للبلد راهنا ومستقبلا.
1. أن يكون في اعتبار التيّارين أنّ المصالحة هي في الواقع تصحيح لاختلال بدأ مع دولة الاستقلال وازداد تعمّقا في العقود التي تلت مرحلة التّأسيس، ذلك أنّ الحركة الوطنيّة كانت قائمة على رافدين أساسيين:
تيّار الهويّة الذي كانت تمثّله الزيتونة وخريجوها وخاصّة الشقّ الوطني التنويري داخلها، وتيّار الحداثة الذي كانت يمثّله خريجو الجامعات الغربيّة الذين وظّفوا المعارف والقيم الحديثة التي تلقوها في خدمة مشروع التحرّر الوطني، كان مطلب الدّستور والبرلمان التونسي والاستقلال الوطني مطلبا جامعا لكلى الرافدين.
بعد قيام دولة الاستقلال حدث شرخ بين الرافدين لأسباب سياسيّة لا علاقة لها بالجوانب العقائديّة والإيديولوجية، فلا تيّار الهويّة أصدر فتوى بتكفير النظام الجديد ورموزه، ولا تيّار التحديث تبنّى خيار معاداة للدّين، هي خلافات سياسيّة فصّل فيها مؤرّخو تلك المرحلة.
وكانت نشأة تيّار الإسلام السياسي شكلا من أشكال ملء الفراغ الذي أحدثه الشّرخ بين التيارين لصالح تيّار التّحديث، هذا الشّرخ الذي صاحبه انتهاكات ومظالم أضعف الدّولة الوطنيّة وأفقدها رصيدا مهمّا على المستوى البشري والثقافي والرّمزي والمعرفي، الدّعوة اليوم إلى المصالحة بين التيّارين هي تصحيح لخلل بدأ مع دولة الاستقلال وعودة للوضع الطبيعي الذي مثّله زخم حركة الإصلاح والتنوير والتّحرير الوطني.
2. قبل أيّ حديث عن المصالحة السياسيّة لا بدّ من نقد ذاتي جدّي ومراجعات عميقة داخل كلّ تيّار حتّى يكون للمصالحة مضمون وفكرة ورؤية لا مجرّد إجراء ذرائعي سياسويّ وأن يقع نشر هذا النقد وهذه المراجعات لتكون أساسا لتعاقد جديد يضمن السلم والوئام الأهلي الدّائم.
على التيّار الإسلامي مثلا أن ينشر بشكل رسميّ المراجعات التي أنجزها طيلة السنوات الفارطة ضمّن بعضها في إحدى لوائح مؤتمره العاشر التي سميت بلائحة التقييم والتي تضمنت الموقف من الدولة الوطنية والبورقيبية ونظام الحكم ومنهج التغيير كما امتدّ التقييم إلى حدود الخروج من الحكومة بعد الثورة، تضمّنت لوائح أخرى مثل اللائحة الفكريّة نقضا كاملا للرّؤية الفكريّة السابقة وتبنّيا لرؤية جديدة تربط الحركة بالجذور الإصلاحيّة المشتركة للمشروع الوطني وكلّ المكتسبات الوطنيّة والكونية إلخ… تبقى هذه النصوص دون جدوى دون نشرها وتفعيلها داخل جسم هذا التيّار.
في مقابل ذلك على التيّار الدّستوري أن يعترف أنّ المنجز الوطني منذ دولة الاستقلال مرورا بالمرحلة النوفمبريّة شهد إخلالات كبرى تراكمت حتّى أفضت إلى الثورة، إخلالات هيكليّة مزمنة على مستوى الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة أصابت المشروع الوطني بالقصور والفشل والعجز عن تحقيق مطالب الحركة الوطنيّة والإصلاحيّة ومطالب الحركة الدّستوريّة نفسها.
3. أن تكون هذه المصالحة مبدئيّة لا ذرائعيّة انتهازيّة وأن لا تكون مجرّد طوق نجاة سياسي لكلا التيارين من وضع الأزمة الذي يشهدانه وأن تكون مصالحة من أجل الوطن وليس على حساب أيّ طرف أو ضدّه أو لإقصائه وتهميشه.
4. أن تكون في إطار مسار التّأسيس المواطني الديمقراطي الذي فتحت عليه الثورة وتحت سقف الدّستور وبشروطه ودون تجاوز مسار العدالة الانتقالية وبنودها المنصوص عليها في الدستور والقانون وبشروط مطالب الإصلاح وتحقيق أهداف الثورة.
5. أن تفضي إلى تضامن حقيقي دائم حول مطالب الجهات المحرومة ومقاومة الفساد وإصلاح الإدارة ومكافحة أسباب الإرهاب والتطرّف العنيف.
كلّ المعطيات الرّاهنة تشير إلى أنّ ما يسمّى اليوم بالمصالحة بين “جناحي” المشروع الوطني لا تزال مجرّد نوايا أو مناورات سياسيّة براجماتيّة تحتاج جهدا كبيرا لتحويلها إلى حالة نضج سياسي ووعي إصلاحي وصحوة ضمير وطني.