تدوينات تونسية

طوق الهلاك

عبد اللطيف علوي
هي القصيدة التي أهديتها إلى روح الطفل السوري “ايلان الكردي”، وعنونت بها المجموعة…
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَاذَا؟…
حَزنتمْ كُلُّكُمْ! حقًّا!
نَشَرْتُمْ صُورَتِي … كمْ مَرَّةً!
وَشَرِبْتُمُ الفُودْكَا، وَقَهْوَتَكُم لأَجْلِي مُرَّةً!
حقًّا!
كَتَبْتُمْ فِيَّ أَشْعارًا تَلِيقُ بِصُورَتِي؟
مَوزُونةً، مَنْثُورَةً … أَوْ حُرَّةً!
وَوَصَفْتُمُ الأَمْواجَ مِنْ فَوقِي، وَمِنْ تَحْتِي؟
تَمامًا مِثْلما أَحْسَسْتُها!
وَوَصفْتُمُ الرَّملَ الْحزينَ ينامُ تحْتِي بارِدًا؟
وَالشَّمْسَ فوقِي جَمْرَةً مُحْمرَّةً!
حقًّا؟
بكَيْتُمْ رغْمَ ضِيقِ الْوقتِ،
مِنْ أَجْلِي أنا!
وبِرغْمِ أَنَّ الْمَوتَ صارَ بذَاءَةً يَومِيَّةً!
وَحكايَةً عادِيَّةً مُجْتَرَّةً؟!
حَسنًا… أَنا حقًّا خَجُولٌ مِنْ شَهامَتِكُمْ، أَنا
ما كانَ ظَنِّي أَنْ أَمُوتَ بِأَرْضِكُمْ يومًا،
وَلاَ في بَحْرِكُمْ !!
أَنَا آسِفٌ حقًّا!
نَزلتُ على شَواطِئِكُمْ بِلاَ تَأْشِيرَةٍ
أُمِّي كذلِكَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّها أَيْضًا سَتَلْحَقُ بِي هُنا
وَأَخِي سَيَحْبُو خَلْفَنَا …
وَأَبِي … سَيَبْقَى لَيْلةً أُخْرى هناكَ بِلاَ عشاءٍ
كَيْ يُرَتِّبَ مَوْتَنَا
وَأَنا كَعَهْدِي دائِمًا أَجْرِي وَأَسْبِقُهُمْ جَمِيعًا
اُنْظُرُوا … هذا حِذائِي
إِنَّهُ حُلْوٌ صَغِيرُ!
غيرَ أَنَّ أَبِي يَقُولُ بِأَنّهُ مِثْلِي … يَطِيرُ!
أَنا خَجُولٌ مِنْ شَهامَتِكُمْ، أَنا!
عَفْوًا … نَسِيتُ بِأَنْ أُعرِّفَكُمْ على نَفْسِي …
أَنا … طِفْلٌ فَقَطْ!
عُمْرِي ثَلاَثُ سِنِينَ
كانَ عليَّ أَنْ أَحْيَا قليلاً كي أُعَرِّفَكُمْ بِنَفْسِي
جِئْتُ مِنْ أَرْضِ الْهلاَكِ … تَرَوْنَها؟
مَا عادَ لِي أَهلٌ هُناكَ.
جَمِيعُهُمْ رَحلُوا إِلى الْجَنَّهْ!
وَأَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّا سَنَتْرُكُ بَيْتَنا أَيْضًا،
لنَبْحثَ مِثْلَهُمْ عنْ جنَّةٍ أُخْرى لَنا
لُعَبِي هناكَ تَرَكْتُها تحتَ الْحجارةِ بعْدَ أَنْ…
صارَ الْكِبَارُ هُناكَ أَيْضًا يَلْعبونَ بِقَسْوةٍ
ويُهَدِّمُونَ بُيُوتَنا
كُنَّا نَصِيحُ بِهِمْ ونَصْرُخُ:
إِنَّكُمْ تُؤْذُونَنا!
لاَ تَلْعَبُوا مَعَنا بِأَسْلِحةِ الْكِبَارِ،
وَلاَ تَمُوتُوا بَيْنَنا!
وَرَأيتُ أُمِّي … مِثْلَنا أَيْضًا تَخافُ!
وَنحنُ أَيْضًا
مِثْلَها صِرْنا نَخافُ وَنَحْتَمِي
مِنْ كلِّ طائِرَةٍ نراهَا بعْدَ أَنْ،
كُنَّا نُلَوِّحُ بِالْيَدَيْنِ لَها وَنَرْكُضُ،
مِثْلَ أَسْرابٍ مِنَ الْغِزْلاَنِ نَرْكُضُ تَحْتَها
صارتْ تُطارِدُنا
وَتُمْطِرُنا بِحَلْوًى تَفْقَأُ الْعيْنَيْنِ والأَمْعاءَ
حلْوًى لاَ تَذُوبُ بِسُرْعةٍ مثلَ الَّتِي
يَبْتاعُها دوْمًا أَبِي!
ما عُدْتُ أَحْلُمُ أَن أَصيرَ الآنَ طَيَّارًا،
أُريدُ الآنَ أَنْ أَحْيَا فقطْ!
مِنْ دونِ طائِرةٍ، وَلاَ حلْوًى تُذَوِّبُنا هُناكَ ..
وَلاَ تَذُوبُ!
أَنا خَجولٌ مِنْ شَهامَتِكُمْ أَنَا!
بِالأَمْسِ، حدَّثَنِي أَبِي عنكمْ طَوِيلاً
قالَ إِنِّي سَوفَ أَنْسَى قَرْيَتِي، وَأُحِبُّكُمْ
وَسأَلْتَقِي أَبناءَكُمْ كي نبْتَنِي فوقَ الرِّمالِ قُصُورَنا،
أُمِّي بَكَتْ،
لمَّا اسْتَوَيْنا فوقَ قارِبِنا الصَّغيرِ وَغَمْغَمَتْ
وَأَنا بَكيتُ لأَجْلِها لمَّا بَكَتْ .. فتَبَسَّمَتْ!
وَمَضَى بِنَا ..
الْقاربُ الْمَسْحُورُ مَشْدُودٌ إِلَى عينِ السَّماءِ،
وَحوْلَنَا …
تتَراقصُ الأَمْواجُ كالأَشْبَاحِ،
مَرَّتْ ساعةٌ، أَوْ ساعَتانِ،
وَلسْتُ أَذْكُرُ ..
كانَ قَلْبِي يَرْتَخِي!
وَأَبِي يلُوذُ بِصمْتِهِ حينًا،
وَحينًا يَسْتَحِثُّ رَجاءَنَا
وَأَبي بدَا لِي حينَها طِفلاً صغِيرًا خائِفًا
مِثْلِي أَنا ..
ما كُنتُ أَحْسَبُ أَنَّ شيئًا في الْحياةِ يُخِيفُهُ!
وَظَننتُ دوْمًا أَنَّ ظَهْرَهُ سوْفَ يَعْصِمُنا،
يَرُدُّ الرِّيحَ عنَّا، والصَّواعِقَ والْمَطَرْ!
وَظَننتُ أَنَّ يَديهِ وهوَ يَضُمُّنَا
بَرُّ الأَمانِ!
وَكَفَّهُ كفُّ الْقَدَرْ!
وَسَمِعتُ أُمِّي وَهْيَ تَصْرُخُ،
ثمَّ تَلْهَجُ بالدُّعاءِ،
وغابَ عنّي صوتُهَا ثمَّ انْدَثَرْ
وَمددْتُ كَفِّي…
فَجْأَةً هدَأَ الْعُبابُ،
وَطارَ مِنْ عَيْنِي نُعاسٌ ماكِرٌ!
وَجَرَى أَخِي خَلْفِي بِخِفَّةِ أَرْنَبٍ
فَقفَزتُ تحتَ الْماءِ فوْرًا واخْتَبَأْتُ،
حَبَسْتُ أَنْفاسِي طوِيلاً مِثْلَهُ
وَمَكَثْتُ تحتَ الْماءِ حينًا، أَنْتَظِرْ!
لكنَّهُم غابُوا طوِيلاً يا أَبِي!
وَأَخِي …
تبخَّرَ كالنّدَى
ناديتُ أُمِّي .. لمْ تُجِبْ!
لِمَ يَا أَبِي أَغْضَبْتَها؟
وَجَعَلْتَها تَمْضِي وَتَتْرُكُنِي
سَلامًا يا الَّتِي لَمْ أَبْكِهَا!
وَتَقَبَّلِي بَعْضَ الْعِتابِ، أَلَمْ تَقُولِي دائِمًا:
أَمْسِكْ يَدِي … ومَسَكْتُهَا!
بِحرارةِ الطِّفلِ الْغريقِ … مَسَكْتُها!
لكنَّكِ أَفْلَتِّهَا!
لَمْ يَبْقَ لِي في الْبالِ يا أُمِّي سوى شَيْءٍ الذِّكْرَى!
سلاَمًا أَيُّها النَّاجُونَ منِّي!
لمْ أَجِدْ وَقْتًا لأَكْبُرَ مِثْلَكُمْ!
أَنا لَمْ أَجِدْ وَقْتًا لأَضْحكَ أَوْ لأَبْكِي مِثْلَكُمْ!
يا أيُّهَا النّاجونَ…
كانَ عليَّ أَنْ أَحْيَا قليلاً
كَيْ أُعرِّفَكُمْ بِبَيْتِي فَوقَ تلِّ الْبُرْتُقالِ،
وقطّتِي وَالأَصْدِقاءِ وَجارَتِي الصُّغْرَى،
سَلاَمًا يا الَّتِي قدْ كانَ يُمْكِنُ أَنْ تكونَ حبِيبَتِي،
مِنْ دونِ آلاَفِ الصَّبايَا ..
لَمْ أَجِدْ وَقْتًا لأَقْرَأَ سُورَةَ الْعُشَّاقِ،
كانَ عليَّ أَنْ أَحْيَا قَلِيلاً …
سَاعَةً أُخْرَى فَقَطْ، أَوْ ليْلَةً أُخْرَى
سَلاَمًا يا بلاَدَ الانكساراتِ الَّتِي،
قدْ كانَ يُمكنُ أَنْ أَكونَ بِها رَسُولاَ!
أَوْ طَبِيبًا ماهِرًا ..
أَوْ شاعِرًا أَوْ ساحِرًا!
أَوْ أَيَّ شيْءٍ ليْسَ يُزْعِجُكُمْ، وَلَوْ …
ظِلاًّ كَسِيرًا عاثِرَا!
ما لِي أَراكُمْ تنظُرونَ إِليَّ في وجعٍ؟
أَلَمْ يَسْبِقْ لنا أَنَّا الْتَقَيْنَا؟!
كانَ اِسْمِي رُبَّما سَعْدًا، أَوِ الرَّيَّانَ أَوْ أَحْمَدْ
وَكنتُ علَى الرَّصِيفِ بلاَ حذاءٍ …
رُبَّمَا صادَفْتُمونِي في الْمحطَّةِ مرَّةً!
فَحَثَثْتُمُ الْخَطْوَ السَّرِيعَ إِلَى منازِلِكُمْ وقُلْتُمْ:
يا لطَلْعَتِهِ الَّتِي… يَا للْقَرَفْ!
أَوَ لَمْ يَمُتْ قبلِي كَثيرٌ؟
طيِّبُونَ جَمِيعُهُمْ حَدَّ الْخَرَفْ!
وَتَرَكْتُمُوهُمْ يَرْحلُونَ بلاَ دُموعٍ أَوْ شُمُوعٍ
أَوْ أَسَفْ!
هَلْ كانَ مَوْتِي لَوْ سَقَطْتُ بلاَ ضجِيجٍ مِثْلَهُمْ،
يَبْدُو مُريحًا
لا يَهُزُّ لكُمْ جَبِينًا، أَوْ يَمَسُّ لكُمْ طَرَفْ!
هَلْ كانَ ذنْبُ السّابِقِينَ بِأَنَّهُمْ
لَمْ يَسْحَبُوا أَشْلاَءَهُمْ نحوَ الرِّمالِ،
وَلَمْ يَصِيرُوا صورةً حَصْريَّةً
تَغْزُو الصُّحُفْ!
يا أَيُّها الشُّعراءُ، والْمُتربِّصُونَ بِجُثَّتِي!
رُدُّوا عليَّ كلابَكُمْ وَذُبابَكُمْ!
لاَ تُفْسِدُوا مَوْتِي عليَّ،
فَلَسْتُ أَذْكُرُكُمْ بِشَيْءٍ!
لَمْ أَجِدْ وَقْتًا لأَطرُقَ بَابَكُمْ
فَبِأَيِّ حقٍّ تَنْزَعُونَ حذائِيَ الْحُلْوَ الصَّغِيرَ، وَبِدلتِي
كَيْ تَدْفِنونِي بَيْنَكُمْ ؟!
أنَا لَسْتُ أَعْرِفُكُمْ!
وَلَنْ أَحتاجَ بعدَ الْيَومِ قُمْصانًا وأَحْذِيَةً،
وَلاَ كُتُبًا عنِ الأَحْيَاءِ، أَوْ صُوَرًا وَأَقْلامًا مُلَوَّنةً،
وَلنْ أَحْتاجَ أَفْلاَمًا من الْكَرْتُونِ أَوْ لُعبًا ..
وَلاَ أَحْزانَكُمْ وَشُمُوعَكُمْ!
كُفُّوا عليَّ دُمُوعَكُمْ!
فَلقدْ خَبِرْتُ مَذاقَهَا …
مَنْ قالَ إِنَّ الْمَوتَ شَيْءٌ مُوجِعٌ! !
الْيَومَ مُتُّ وَلَمْ أَخَفْ!
سَتُجرِّبُونَ جَمِيعُكُمْ …
وَتَرَونَ أَنْ لاَ شَيْءَ يُوجِعُ في الْحياةِ سِوى الْحياةِ،
وَبَعْدَها ..
لَنْ نَخْتَلِفْ!
حَتْمًا سَنُدْرِكُ بَعْدَها أَنَّا هُنا …
لَنْ نَخْتَلِفْ!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock