صناعة الوهم ؟!!

منير إبراهيم تايه

“لا توجد حروب في العالم تهدد حياتنا اليوم غير تلك التي تدور بداخلنا، لا توجد مأساة عظيمة في العالم سوى حياتنا اليومية، نحن الجيل الذي تربى على التلفاز معتقدين أننا في يوم من الأيام سنكون أثرياء أو نجوم أفلام أو من مشاهير العالم، ولكن يبدو أننا لن نكون، نحن نتعلم هذه الحقيقة ببطء ونحن بالفعل في حالة غضب شديد”. من رواية “نادي القتال” لـ “تشاك بولانيك”.

استغفال الناس والضحك عليهم مستمر، فالنقص لدى أي إنسان امر مقلق، والرقص على هذا النقص موجع، فلذا كان سبيله من يخلصه من هذا الوضع، فيتبارى المخلصون لكن ليس هناك اقسى من استغلال تطلعات الناس نحو السعادة والتغيير، ببيعهم وهما على انه طريق الخلاص المنشود، تتعدد الوانه وتتغير مواضعه وتتبدل أسماؤه لكنه يبقى وهما، يأتي من كل اتجاه.. فهل عشت الوهم أو عايشته أو عرفته؟… سؤال يجب أن نطرحه على أنفسنا دائما وأبدا أمام ما نراه من ضغط هائل في كل شيء، وربما يمكننا القول بكل ثقة إن كل إنسان قد عاش في مرحلة ما من حياته وهما أو جانبا منه..

من المؤكد أن للكلمة قوة ربما يجهلها الكثيرون… فنحن نثرثر ولا نتكلم، يقودنا من عرف قوة الكلمة وعرف سرها، فبالكلمة يمكنك صناعة الوهم وبالوهم ستبرمج العقول، اوهموك بانك تعرف عدوك، فقد صنعوه وفق مقايس علموها اياك، صانعو الوهم يستغلون دوافعنا البشرية، لقد جعلوا للخوف وهما وللأمان وهما وللحرية وهما وللدين وهما وللأنسانية وهما ولأنفسنا وهما.. وهذا العالم يدار بالوهم، ففي عالمنا الاكثر تعقيدا باتت صناعة الوهم لها مفكروها وفلاسفتها، فكما ان الإعلانات التجارية هي ممارسة توهيمية تهدف التأثير على المشاهد أو المستمع لجره إلى شراء سلعة معينة، أو الاقتناع بفكرة ما، كذلك هناك مستويات أخرى من التوهيم السياسي أو المعرفي…

والسلطة اي سلطة تبذل جهدها في صناعة الوهم، لتنسج من أحلام البسطاء وأمنياتهم مشاريع التجهيل والتغييب، وتجند حماستهم وتطلعاتهم نحو إنتاج المزيد من الخيال والوهم المحال، لتغدو الأمة غارقة في حالة من الانتظار الدائم للخلاص على يد المجهول، ومفرطة في أوهامها المترقبة دوما لقدوم البطل المخلص.

يعرف الوهم على أنه شكل من أشكال التشوه الحسي، ويدل على سوء تفسير الإحساس الحقيقي، كما يعرف أيضا على أنّه إيمان الشخص بمعتقد خاطئ بشكل قوي، رغم أنّه لا يوجد أدلة على وجوده أصلا، انه تلك الحالة التي يرى فيها الإنسان الأشياء على غير حقيقتها، بمعنى أنه يخلق صورا ذهنية لا تطابق واقع الشيء، حيث يُعرف الشيء بالشيء. كأن تعرف حقيقة سخونة الماء بلمسه، ومن لم يجرب ذلك لا يمكنه أن يؤمن به أو قد يتشكك.

والوهم لغة هو الظن الفاسد، وكل ما هو غير مطابق للواقع، والوهم اصطلاحا هو ادراك الواقع على غير ما هو، اما الوهم من وجهة نظر فلسفية فهو كل خطأ في الإدراك شريطة أن يعد هذا الخطأ طبيعيا، وجاء تفسير الوهم في الفلسفة الهندوسية “مايا” على انه غير واقعي وغير زائف في الوقت نفسه بمعنى غير صحيح وليس باطلا… في التراث الهندي ينظر إلى الوهم الذي يعرف بـ (مايا) على أنه يزدهر مع نمو الخطيئة فكلما كبرت الخطايا ونبتت بشكل كبير كان الوهم كثيفا، وهنا المقصود الوهم المعوق الذي يعطل الذوات عن الإبداع والابتكار والتفوق، فـ “الخطيئة هي السماد الذي يجعل مايا تزدهر وتنمو بقوة” كما في تراثهم. والخطيئة هي سياق الجهل لأن ارتكاب الخطأ في هذا السياق بالذات مترتب عن جهل النفوس لأنها تعيش الظلمة وترفض أن تنطلق إلى النور، أو لأنها مقيدة بالعالم القديم وترفض مغادرته إلى العالم الجديد، الرحب والمشرق.

والعقل البشري قابل لتلقي الخرافة والوهم وتصديق المجهول اكثر، وتعتبر الرغبات والمخاوف من اكبر مسببات تقبل الوهم، وهي غير مرتبطة بمستوى تعليمي او اجتماعي او اقتصادي معين، فالوهم لا يرتبط بالخرافة التي سكنت المجتمعات القديمة فقط، انما سرى الوهم الى المجتمعات المتطورة بالنظريات الحديثة الجارية، فالانفتاح كان سببا في رواج الوهم بسبب عالم التكنولوجيا والتغير السريع الذي جعل الانسان يصدق كل شيء. 

والوهم اخطر من الخطأ لأنه يصعب اكتشافه نظرا لما يحققه من الرغبات الوجدانية والنفعية للإنسان. وقد أكد نيتشه، أن الوهم يتولد عن حاجة الإنسان في أن يوفر لنفسه حياة سلمية وأمينة، لأن أساس الوجود البشري يقوم على الصراع من أجل البقاء، إذ أن حب البقاء يدفع بالإنسان إلى استخدام العقل من أجل إنتاج الوهم لأن الحقيقة قاتلة. وتعتبر اللغة الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في صناعة الوهم لأنه من طبيعة استعارية ومجازية. هكذا يكون الوهم لصيقا بالحياة البشرية لأنه يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء. وبناء عليه، يرى نيتشه أن ما يعتقده الناس حقائق (المساواة، التعاون..إلخ) ويقدسونها، ما هي إلا أوهام تم نسيانها…

ولكن… كيف تصنع وهما ثم تعيشه واقعا ملموسا وكأنك صنعت شيئا حقيقيا يستحق الكفاح، ودون أن تدرى ستجد نفسك تحارب وتكافح طواحين الهواء فلا شيء حقيقى ولا شىء يستحق العناء…
الدماغ عضو ماهر في خداع نفسه عند تكوين معتقدات مخالفة للواقع وهذا ما يعرف لدى الجميع بالوهم، انه كل ما ينتجه الإنسان من معتقدات ناتجة عن رغبته اللاشعورية في البقاء حيث تقدم له الأوهام على أنها حقائق ما يكون مصدرها الأفكار فيتم عندها اللجوء إلى الكذب لإخفاء الحقيقة تحت غلاف المنطق. ولكي نعرف كيف يحدث ذلك عضويا يجب أن نعرف أولا كيف يتكون الإدراك، فالادراك هو الآلية التي يتم من خلالها تكوين معنى شخصي لعمليات الاتصال التي نتعرض لها يوميا مثل تجربة ما أو إحساس ما، تتم هذه الآلية عن طريق ثلاث خطوات لمعالجة المعلومات والمثيرات أو المنبهات التي نحصل عليها من التجربة أو الإحساس، هذه الخطوات الثلاثة متتالية وهي: الاختيار ثم التنظيم ثم التفسير اي ان هناك ثلاث عناصر لعملية إدراكنا للأشياء: – المواد المحسوسة – الحاسة – ومركز الإدراك، عند مواجهة شيء معين تقوم الحواس بالتقاط معلومات “بصرية مثلا” وتنقله للإدراك ليتم معالجتها بتصنيفها وربطها بقوالب سابقة ثم يتم اتخاذ مفهوم معين حول هذا الشيء ليكون مطابقا للواقع، بدون الإدراك تقوم الحواس بتجميع هذه المعلومات لكن لا يمكن التعرف عليها فعند مشاهدة وجه والدتك مثلا ستشاهد ملامح من الأنف والعينين والشعر لكنك لن تعرف من هي هذه المرأة. في حالة الوهم تتخذ المعلومات المسار المعاكس فيتكون الإدراك المختلط بالخيال أولا وترسل هذه المعلومات عبر الحواس لتشكل الشيء حسب توقعاتنا المسبقة وتعطيه صبغة توافق رغباتنا، والوهم يتناسب مع المعرفة ونموها تناسبا عكسيا، حيث يقل الأثر في سيطرة الأوهام المضللة كلما ارتفع الوعي متجاوزا الارتهان للحظة والتاريخ.

حين نشاهد فيلما من افلام الكاوبوي تقوم حفنة من الأمريكيين على الشاشة بقتل جحافل الهنود الحمر فيتساقط هؤلاء بالعشرات والمئات وهم يطلقون صرخات وحشية وكأنهم ليسوا بشرا، وكأنهم يرتكبون جريمة بدفاعهم عن انفسهم وممتلكاتهم ليبقوا احياء في ارضهم، وحين يصاب “البطل” الأمريكى تتوقف الصورة وتعلو الموسيقى الحزينة وكأن نهاية العالم قد حلت..
هكذا استخدمت الولايات المتحد هوليوود.. انها واحدة من أكبر الوسائل الفعالة التى استخدمتها وما زالت لصناعة الوهم والخداع يعملون من خلالها على تمرير رسائلهم عبر العقل اللاواعى لخدمة مصالحهم واستراتيجياتهم، انه التضليل الإعلامي في ابهى صوره وتجلياته، فالفن يعرض صورة مخالفة للواقع، وهذه الصورة تصل إلى الملايين من البشر. وهؤلاء المتلقين لا يعرفون ما وقع بالفعل فتتشكل لديهم هذه الصورة الوهمية هي الواقع الفعلي لهم، “فالاعلام هو جريمة القرن العشرين”، هكذا ببساطة اختصر روبرت فيسك حالة الإعلام المعاصر، بأدواته وآلياته المختلفة.

ان الوعي المشوه هو الوعي الذي يقع ما بين وهم وسائل الاعلام، والواقع، ويتكون لدى فئة من الناس التي تملك من الواقع قدرا لا بأس به، ومعرفة حاصلة من تجاربها وخبراتها، ولكنها بشكل أو بآخر تتأثر بالصورة الإعلامية، وبذلك يتكون لديهم تباين معرفي ووعي متردد، فمن هنا تأتي أهمية تحرير العقل من سلطان الوهم والخداع ليصبح قادرا على التمييز بين التزييف والتشويه الاعلامى المتعمد لادراك الواقع من حيث كونه واقع.. فهذا الوهم الذي نعيشه -الناتج من التضليل والتزييف الإعلامي- يستمد قوته من تخريب النظرة الأساسية للواقع، حين يتم التحكم والتلاعب بعقل المتلقي، وإقناعه بالواقع المزيف والمصطنع بقوة الضخ الإعلامي وبرؤية المتحكم في الآلة المعلوماتية، هذا ما يخبرنا به الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في أطروحته “موت الواقع”.

الحوار المتمدن

Exit mobile version