هواجس في الوضع السياسيّ بالبلاد…
(وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) قرآن كريم
أعتقد أنّ أمرا ما يُدبّر للعبث بالبلاد والعودة بها إلى الوراء بعد فشل المسار الانقلابي الذي انتهى إلى انتخابات 2014 وما نتج عنها من عودة أبناء المنظومة القديمة إلى الواجهة.. بل إلى الصدارة، ولم ينته.. ولمّا كان جنرالات الانقلاب غير قادرين على المضيّ بالانقلاب حتى النهاية فقد قبلوا، مرغَمين، بمشاركة حركة النهضة التي فرضت حضورها ولم تتزعزع بالشكل الذي أريد لها رغم الهرسلة والتشويه ورغم ترذيل السياسة والسياسيين المتواصل ورغم عملية السحق التي حصلت لِمَا كان يشكّل سندا للثورة واستحقاقاتها من مختلف التشكيلات السياسيّة التي قاومت الاستبداد وانتصرت بالثورة ولها ومن أحزاب سياسيّة تصدّرت نتائج انتخابات 2011 وصارت عند انتخابات 2014 أثرا بعد عين!…
الآن تشهد البلاد موجة انقلابية جديدة يُدبّر لها برعاية إقليمية ودولية وبتمويل من الفاسدين داخل البلاد وخارجها من أجل ألّا تكون تونس الاستثناء الذي يَعِدُ بإمكان نجاح المدّ الثوريّ في المنطقة وإن كان إمكانا مؤجّلا.. لقد صار الاستثناء التونسيّ يمثّل صداعا للداخل وللخارج في الآن ذاته يراد وضع حدّ له من أجل القضاء على آخر آمال التغيير في البلاد العربية…
ولنا على هذه الأطروحة حجج نسوقها فيما يلي:
1. لا يعرف أحد سبب زيارة نوّاب البرلمان السبعة إلى النظام السوريّ في ظلّ الحرب الدائرة ببلاد الشام ولا أحد يعلم عن الأطراف التي قابلها النوّاب هناك ولا عمّا دار في الغرف المغلقة شيئا.. ودعك من الصور المسموح بنشرها وممّا يُسمَح بقوله من أنّ الزيارة كانت لمساندة نظام يراه البعض آخر قلاع الممانعة ضدّ الامبرياليّة والصهيونيّة العالميّة، فذلك مجرّد استهلاك إعلاميّ ودعاية كاذبة لا تنطلي على عاقل.. فلا أحد أكثر حرصا على الشعوب وأمنها والأوطان ومصائرها والأمّة ومناعتها من أنصار الثورات في مختلف بلاد العرب من محيطها إلى خليجها على اختلاف ما بينهم، إذ إنّ الثورات في بعض وجوهها هي سعي إلى الخلاص من أنظمة استبداديّة لولا الدعم الأجنبيّ لما استمرّت ولا استقرّت.. وإذا أضفنا إلى ذلك زيارة محسن مرزوق لقائد الانقلاب في ليبيا خليفة حفتر وما قد يكون دار بين الرجلين ومَنْ جَمَعَهُمَا بعيدا عن التصريحات الإعلاميّة علمنا أنّ انقلابا يُدَبَّر له في تونس برعاية غير تونسية وبعناية داخليّة.. ومثلما تدير بعض الدوائر الدولية تسويات سياسية بين الفرقاء لا تعدو فرقعات إعلامية لا أثر لها في تغيير المعادلات القائمة، تدبّر دوائر أخرى انقلابات في الظلام لا نرى منها غير ما لا بدّ من العلم به بمقتضى جهود الإعلام المضلّل.. وأنا أظنّ أنّ للزيارتين المعلنتين هدفا واحدا يتعلّق بالشأن الوطنيّ الذي يُستَهدَف بالإفساد.. ومختلف الأطراف مستفيدة من ذلك: الطرف التونسي يريد الانقلاب لقطع الطريق على فصيل سياسيّ فرضته إرادة الشعب وجاءت به الانتخابات أمّا الأطراف الأخرى فهي تريد الانقلاب حتّى تمنع نهائيا استنساخ التجربة التونسية وحتّى تُعدم الاستثناء ومن ثمّ تقضي قضاء مبرما على حلم الشعوب وتصادر إراداتها إلى الأبد.. ولعلّ ما تواتر من أنباء حول استقبال المشير خليفة حفتر من قبل الإمارات العربية المتّحدة يعزّز ما نذهب إليه.. وقد ذكرت هذه الأنباء أنّ وليَّ عهد أبوظبي، نائب القائد العام للقوات المسلحة الإماراتية، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، قد أكّد في هذا السياق دعم دولة الإمارات للمشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرقي ليبيا، مشيداً بدور الأخير في “محاربة الإرهاب” !
2. إنّ ما جرى من تشقّقات داخل نداء تونس لا يعدو في نظري زوبعة مفتعلة لغرض سياسي بعيد هو الخلاص نهائيا من حركة النهضة وما استتبع ظهورها في المشهد عامّة.. صحيح أنّ هذا التشكيل كان سفينة جامعة للمتناقضات غير أنّ ما جمع عناصرها أوَّلَ أمرهم لا يزال قائما، وقد نجحوا في العودة بمعركة الاستقطاب إلى الواجهة عبر أدواتهم الإعلامية التي قد يبدو ظاهريا أنها مختلفة ولكنها تعمل لهدف واحد مركّز هو شيطنة حركة النهضة والعودة بها إلى توصيفاتهم القديمة والرجوع بالبلاد إلى مربّع الاستقطاب الذي سبق انتخابات 2014.. لقد تجمّع هؤلاء للخلاص من حركة النهضة وسيظلون على تجمّعهم ما دامت حركة النهضة موجودة.. ولا تغرّنكم تصريحاتهم الإعلاميّة، فإن هي إلّا طُعم للتمويه على الخصوم.. وجبهة الإنقاذ والتقدّم الجديدة دليل على ذلك، وقد عاد فيها رضا بالحاج إلى محسن مرزوق واجتمعا إلى خميّس كسيلة وبقيّة اللفيف بعد طلاق ظنّه المراقبون بائنا بينهم.. وما دامت التناقضات لا تصل بين هؤلاء إلى المستوى المبدئيّ فلن يمنعهم شيء من معاودة التكتّل لضرب خصمهم الموحَّد الموحِّد ولو أنّهم تقاتلوا بالسلاح.. فلا شيء يحول دون عودة هؤلاء إلى سيرتهم الأولى.. وها هم يلتقون مع غيرهم لتكوين تشكيل جديد سيستعملونه لدعم حزب حركة نداء تونس في قادم الاستحقاقات أو على الأقلّ لمحاصرة حركة النهضة إذا لم يستطيعوا إقصاءها.
3. الجرعة الجديدة التي لقيها نداء تونس دُفعة واحدة من بعض الوجوه التي لا جامع بينها إلّا ما يُدَبّر في الخفاء ممّا لا نعلم عنه شيئا.. وإلّا ما الذي يجمع بين رجل الدين فريد الباجي وصاحب الثأر برهان بسيّس والوزير المُقَال محسن حسن ومحامي المخلوع منير بن صالحة؟ هذه الجرعة تأتي في سياق الإعداد لتكوين جيش من الجنرالات وأتباعهم.. وتجمّع هؤلاء الوافدين يؤكّد على أن خصومات التموقع بين جنرالات النداء إن هي إلّا “عراك طبابليّة” كما تقول عاميتنا في استعارتها الرائعة.. وإنّي لأظنّ أنّ انتداب هؤلاء اللاعبين الجدد لفريق نداء تونس إن لم يكشف عن التدبير الخفيّ فإنّه رسالة إلى الطيور المهاجرة حتّى تعود إلى العشّ لتستأنف مسيرة استئصال الخصم العنيد الذي بعثت الثورة فيه الروح.
4. إنّ التسريبات لم تكن تسريبات ولكنها رسائل مشفّرة يراد إيصالها إلى من يهمّه الأمر، ولقد كانت حركة النهضة حاضرة في مختلف تلك التسريبات تقريبا وهي الخيط الناظم بينها.. وقد ذُكرت باعتبارها عدوّا “ما من صداقته بدّ”.. وكان الموقف من النهضة واحدا من جميع اللاعبين في مختلف الشقوق.. وحتّى الملتحقون حديثا بالنداء بادروا إلى ذكر النهضة كما لو كانت كلمة سرّ اتّفق عليها الجميع.. ولست أشكّ في أنّ حركة النهضة كانت مدار الحديث خارج البلاد ومع اللاعبين الأجانب من أمثال خليفة حفتر وبشّار الأسد ومن كان على شاكلتها من رافضي الثورات العربيّة.. بل لقد ذكرها لاعبو جبهة الإنقاذ والتقدّم التي يقودها محسن مرزوق لأنّها كانت الكلمة التي اجتمعوا عليها.. على أنّ خطبة فريد الباجي العصماء في شعبة من شعب النداء التي تكلّم فيها بتلك الأريحية وذلك الوضوح عن أمور زعم ورودها بين الباجي قايد السبسي وبينه تظلّ أمرا مريبا يبعث على الشكّ في جميع حلقات مسلسل التسريبات التي سمعها التونسيون وشاهدوها.. لأنّها كانت رسالة مضمونة الوصول إلى حركة النهضة وقياداتها ربّما لأجل زرع الاختلافات بينهم فيما يتعلّق بمشاركة نداء تونس في الحكم بالصيغة الراهنة.. إنّهم يريدون أن يسوّقوا أنّ مشاركتهم في الحكم باتت عبئا على النهضة التي يبدو التململ على غير قليل من قياداتها وفاعليها.. وهي أيضا تلويح لمن أغضبتهم مشاركة النهضة في الحكم من أنصار النداء بأنّ فك الارتباط معها وارد حتّى يعودوا إلى مواقعهم.
5. الحملة المسعورة ضدّ هيئة الحقيقة والكرامة التي يبدو أنّها بما أدارته من جلسات الاستماع العلنية قد نجحت في فضح منظومة التعذيب وكشفت رواية أخرى لتاريخ البلاد ظلّت حبيسة صدور أصحابها لا يُسمح بتداولها ولا وجود لها خارج الدوائر الأكاديميّة الضيّقة. لقد اكتشف التونسيّون من خلال تلك الجلسات تونسَ أخرى لم يكونوا يعرفونها من قبل.. فما كان من دولة الحقوق والقانون والمؤسسات ليس سوى طلاء خارجيّ يخفي خلفه عصرا حجريا موازيا يعيشه غير قليل من التونسيين الذين قرّروا أن ينظروا بغير منظار السلطة السياسيّة.. لم تكن الألوان الطبيعيّة البرّاقة إلّا على الواجهات التي كان يسوّقها النظام الذي طالما تغنّى بمنجزاته ومعجزاته والحال أن خلف الأكمة ورشة تعذيب وأقبية للشواء الآدميّ.. واكتشف التونسيون أنّ لتاريخهم رواية أخرى قد تكون في أسوإ حالاتها خطأ يحتمل الصواب.. ولكنّها ظلّت مكتومة وما حُجِزَتْ عن التداول إلّا لخشية منها وإلّا فإنّ الكذب لا يعمّر ولا يخيف.. لقد أعادت هيئة الحقيقة والكرامة إلى التونسيين وعيهم ووضعت حدّا لسياسة التغييب التي فُرضت عليهم.. وعودة الوعي لا ترضي الأطراف المستفيدة من تغييبه…
6. ليست عودة الحديث عن الزعيم بورقيبة سوى بحث متدهور من قبل أطفاله المتبقّين عن حصن يقيهم من عرائهم المخيف ويحفظهم من توسّع حركة النهضة ويردّ بعضهم إلى بعض وقد بات، رحمه الله، مرجعيتهم في السياسة وقدوتهم في الأخلاق وإمامهم في التفكير وزعيمهم في التدبير.. إنّ استدعاء بورقيبة إلى الواجهة من جديد والصراخ بحياته، مثلما كان يُفعل في عهده ممّا كان يثير سخط التونسيين، إنّما يعبّر عن خوف هؤلاء من مصير اليتم الذي صاروا إليه والحال أن المخلوع لم يترك لهم شيئا يدافعون به عنه، وقد خذلهم بهروبه وأورثهم سمعة يعرفها القاصي والداني داخل تونس وخارجها.. إنّهم، في معركتهم ضدّ الرجعية والظلامية، كما يقولون، يحتاجون إلى نبيّ لحداثتهم التي يتنادون إلى نصرتها.. وليس لهم سوى بورقيبة نبيّا.. غير أنّ الأنبياء لدى هؤلاء لا يموتون.. ويحسن في هذا السياق أن نسوق ما ذكره المؤرّخ عبد الجليل التميمي في رسالة وجهها إلى بعض الإعلاميين عندما كتب: “التزم البورقيبون الصمت أيام استبداد بن علي، ولم يجرؤوا حتى على ذكر اسم الحبيب بورقيبة (…) ألا تستحون اليوم أيها البورقيبيون البؤساء للدفاع كذبا وبهتانا عن الإرث البورقيبي اليوم وتسعون جميعكم لتوظيف ذلك إعلاميا ؟ إني أخجل من موقفكم الغير أخلاقي البتة…”.
7. الإرهاب لئن اختفى شبحه فلم يضرب منذ مدّة بفضل الجهود الأمنية والعسكرية الكبرى، إلّا أن كونه مرضا كامنا يجعله مستعدّا للظهور متى استدعته الجهات التي تستعمله لإشاعة المناخات التي تحقّق فيها أهدافها ولتتمكّن من تحقيق ما عجزت عن بلوغه بالديمقراطية والانتخابات.. يظلّ الإرهاب شبحا مخيفا ملازما متى عرفنا أنّه إرهاب وظيفيّ تستدعيه رغبة المتضرّرين من الأوضاع الجديدة في إرباك المشهد وإشاعة الخوف الذي يعطّل الحركة بالبلاد ويسوّق الحنين لما قبل الثورة.. وقد بدت أصوات الحنين تلك تعلو شيئا فشيئا كأنّ نظاما مستبدّا لم يفسد وكأنّ ثورة شعب لم تقم…