كيف يصبح الصحفي في تونس نذلا ؟

كمال الشارني
لن يحدث شيء لنبيل القروي ومن معه، سيحدث للناس ألم
نبيل القروي يفعل ما يريد، لأنه متأكد أنه ليس هناك دولة، وأن “ماكينة المحاسبة” لا تتحرك إلا إذا جاءت التعليمات، وهو لا يتوقع التعليمات ضده لأنه يظن أن حاجة الكثير من السياسيين الانتهازيين لقناته أكبر من أن يضحّوا به.
الأغلب على الظن أن لا يحدث له شيء ولا لأحد من جماعته الذين شاركوه خطة الشيطنة لأن كل شيء في برّ تونس يسير ضد المنطق وضد المصلحة العامة وضد الوطن نفسه الذي يتغنون به بصفته أجمل الاختراعات التي قد يحصل عليها الفاسدون، لكن الجهلة وحدهم يظنون أن مثل هذه الأحداث لا تترك أثرا في نفوس الناس، إنها أشياء صادمة ومؤلمة تتراكم في اللاوعي الجمعي، وفي اللحظة التي يعرف علماء الاجتماع كيف يفسرونها لكنهم يعجزون عن توقعها، سينفجر غضب الناس على مثل هذه المؤسسات ورموزها ومن فيها ورمزيتها وكل ما يمت لها بصلة،
ربيع براغ لن يحدث في تونس: كيف يصبح الصحفي في تونس نذلا
ينشأ الصحفي التونسي في الأصل مثل كل الصحفيين في العالم، شريفا، نزيها طموحا، ثم يتحول بعضهم إلى أنذال في خدمة الطاغية (أو ينتظر دوره لذلك)، سواء كان حاكما أو حالما بالحكم أو صاحب مال فاسد وأفاريات. حين يبدأ الصحفي التونسي حياته المهنية المليئة بالأحلام، يقع تحت سلطة “غير الصحفيين”، البشمرقة الذين فشلوا في مهنهم الأصلية وأصبحوا باعثي مؤسسات إعلامية ومسؤولين فيها ونجوما يفهمون في كل شيء، يتفاوضون مع أصحاب السلطة في غياب السلطة الحقيقية في الصحافة: “الكفاءة المهنية”، في الأثناء، التمسك بالمهنية وأخلاق المهنة يعني في الكثير من المؤسسات الخاصة الطرد والجوع والتشرد، “بره انشر مقالاتك فوق سطح داركم، مع الغسيل”.
حين طلبنا “فصل الإدارة عن التحرير” في وسائل الإعلام عام 2008، قال لنا أحد خصومنا الشهيرين من رباية أسوأ ما في تاريخ الحزب الاشتراكي الدستوري ثم التجمع “هذا بالدبّابّات” في إشارة إلى ربيع براغ 1968، عندما داست المجنزرات السوفياتية شباب العاصمة التشيكوسلوفاكية براغ الباحث عن شيء من الإنسانية في الاشتراكية، لا غير.
رغم الثورة التونسية، فإن أصحاب المؤسسات الإعلامية خصوصا في القطاع الخاص، ظلوا يعتبرون “المحتوى الإعلامي” لعبة أكبر من أن تترك للكفاءة المهنية في الصحافة، هي أداة ابتزاز سياسي ومالي، فصل الإدارة عن التحرير لم يحدث في المؤسسات الخاصة، حيث الوضع يشبه تدخل صاحب مصحة طبية في العمليات الجراحية ليأمر الجراح باستئصال كلبة المريض أثناء جراحة الكبد مثلا، “يمشي يشكي، توه بعد خمس سنين، نعطوه 700 دينار”، لقد قالها ليلخص كل شيء.
الجريمة ضد الرأي العام في تونس ليست مسؤولية أصحاب المؤسسات الإعلامية وحدهم، ولا مسؤولية الصحفيين الفاسدين وحدهم، هي أساسا عجز هذا الشعب عن إنتاج خيار إعلامي مناسب لاستحقاقات الثورة، خذلان رأس المال الوطني للإعلام حتى بقي نهبة لمن هب ودب، ومن يعرف كيف يحول صحفيا شابا حالما بالعدالة والحقيقة إلى نذل.

هذه الماكينة الجهنمية، أنا أعرفها جيدا
لا، ليس هكذا تشتغل الماكينة، إنها تحدد أعداءها أولا لكنها لا تناقش أبدا أطروحاتهم، بل تعمل على شيطنتهم وإغراقهم في التفاصيل التي لا علاقة لها بـأصل القضية، السخرية منهم، إفقادهم المصداقية وربطهم بالجنون والعته والسخف واختراع الفضائح التي تمس من كرامتهم وقيمهم الاعتبارية عند الناس، بالغرابة، الفساد أو التأمر أو التطرف أو العمالة، ثم كلما قال هؤلاء شيئا أو عبروا عن رأي، استدعت الماكينة الوعي الجماعي المتأثر بما سبق من فقدان المصداقية، الجاهز للشتم والسب والإقصاء وتفعيل الشيطنة ونسيان القضية الأصل.
كانت إسرائيل وأعوانها في الإعلام الدولي أكثر من طبق هذه الخطة، حيث تبدأ الأخبار بـ: “منظمة التحرير التي قتلت أطفالا إسرائيليين لا ذنب لهم”، أو “حركة حماس التي تنتمي إلى إيران” ونسيان الاحتلال، وفي تونس كان النظام يقول: “المحسوبون على اليسار الذي يستمد مرجعيته من حركات دولية فوضوية متطرفة لا تحب الخير لتونس ولا تحتمل نجاحها”، ثم “حركة النهضة التي اقترفت أعمالا إرهابية في تونس وتبنت أغلب الأعمال الإرهابية في العالم”، أو التي ترتبط بعلاقات مشبوهة مع إيران أو داعش.
اليوم، هل رأيتم أحدا يناقش أصل الخلاف بين قناة نسمة وجمعية أنا يقظ ؟ هل فيكم من يعرف لماذا تعاركا ؟ هل فيكم من تذكر أن العركة كانت بسبب التهرب الضريبي الفاحش الذي يقوم به القروي ؟ إن تذكرتم، فقد فهمتم كيف تشتغل الماكينة.

Exit mobile version