عن اللغة الخشبية وحديث وزير العدل !

القاضي أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء

حديث وزير العدل السيد غازي الجريبي لبرنامج “24/7” بقناة “الحوار التونسي” يوم 13 افريل الجاري يمكن ان يشير اليه المحللون كمثال ناجح للغة “الخشبية ” او ما يطلق عليه ايضا “لغة الخشب” او “اللغة المتخشبة”.
ورغم ان السياسة في حد ذاتها هي طريقة من طرق الخداع، فان استعمال اساليب اللغة الخشبية في السياسة يمكن ان ينتهي بنا الى التسمم او يقتلنا ونحن احياء!.
وحتى لا يبقى في نفسي شيء من ذلك الحديث، اقول ان مضمون اللغة الخشبية -لمن يريد ان يتامل فيها- ينطبق بصفة اساسية على تلك المفردات الخالية من المشاعر والمقولات الجامدة (الميتة) والتعبيرات الجاهزة او المعلبة (وهي بالمناسبة من بين صيغ اللغة الخشبية لكثرة استخدامها!).
وباختصار فان محتوى اللغة الخشبية التي يمكن ان يمطرنا بها السياسيون قد تسببت ولازالت في تشويه الكلام والتفكير في ان واحد!.
وعلى خلاف ما يمكن ان يعتقد البعض فان المرحلة الجديدة التي نعيشها قد شهدت ازدهارا غير مسبوق لتلك اللغة الخشبية ربما بسبب “الموجة الاعلامية” و”الانفجار الحزبي” و”النفاق السياسي” وحتى بسبب “الظواهر الفردية” (خصوصا من بين الوزراء) التي برزت بعد الثورة !.

وفي هذا الشان يمكن ان نستحضر امثلة متعددة لهذا الخطاب على السنة الناطقين باسم الحكومات المتعاقبة او باسم بعض الوزرات (اخرها ان حكومتنا اقوى حكومة في تطبيق القانون! او الأمن تدخّل لفض شجار حصل بين مجموعتين من الطلبة خلال إحتجاجهم!…) او من افواه بعض الوزراء (العلم -المصنوع في تركيا- مهما كان ثمنه ما يغلاش على تونس! او باكالوريا هذا العام ستكون نموذجية!..) بل نجد من بين الناشطين بالمجتمع المدني من يستخدم اساليب هذه اللغة الخشبية (الناطق الرسمي باسم اتحاد نقابات قوات الأمن الداخلي: البعض لا يريد نجاحات أمنية لان ولاءه لما وراء البحار وليس لتونس!…).

واضافة لذلك ولكي نتبين بصفة اوضح طبيعة الخطاب الخشبي، لنا ان نستحضر ايضا مثال الاجوبة المعلبة كالقول في قضية تعذيب المساجين، ان التعذيب لا يمثل سياسة ممنهجة للدولة وان الامر يتعلق بسلوكات فردية او الاستشهاد بمقولة تنسب الى كاميرون رئيس الوزراء البريطاني رغم انه كذبها صراحة (عندما تصل الامور الى الامن القومي لا تسالني عن حقوق الانسان!) او ان “البلاد داخلة في حيط!” الخ…

ووسط هذا التزاحم الشديد نجد تميزا واضحا للسيد وزير العدل في “انتاج “لغة جافة، متناقضة، دعائية، تتسم بالعمومية والغموض حتى ان جهودك الرامية الى استنتاج افكار نهائية تبوؤ بالفشل، من ذلك (طبق مقاطع بارزة من ذلك الحديث):

1. حول الوضع القضائي، يقول :

– عندي ثقة في القضاة!- انا غير راض على الوضع!
– ارساء المجلس الاعلى للقضاء مسالة مفصلية.

2. حول قضايا الفساد، يقول:

– الحكومة احالت على القضاء مئات الملفات المتعلقة بالفساد في مختلف الادارات والمصالح (لصالح الحكومة!).
– الناس تقول الحكومة ما عملت حتى شيء، ما عندناش احكام (لصالح الشعب!).
– القضاء على كاهلو العديد من الملفات والقضاة يعملون (لصالح القضاء!).

3. حول ازمة المجلس الاعلى للقضاء، يقول:

– انا احترم ارادة القضاة!
– عندي ثقة في القضاة! (مرة اخرى)
– اوجه تحية الى القضاة (اي قضاة؟)
– نأينا بانفسنا عن التدخل في المجلس الاعلى للقضاء!
– لا يمكن للحكومة ان تبقى مكتوفة الايدي!

4. حول حياده الشخصي، يقول:

– عدد من الاحزاب السياسية تحدثوا معي للانضمام لهذا الحزب او ذاك!
– موقفي ثابت ولا استطيع التخلص من جبة القضاء (من جهة الحياد والاستقلالية)!
– في المستقبل ربما، ولكل حادث حديث!

5. حول الاتهامات الموجهة له، يقول:

– المؤسسة التي تراستها قبل 2011 (المحكمة الادارية) اكبر دليل على حيادي!
– تاريخ المحكمة الادارية قبل 2011 كاف للرد على ذلك!
– حتى حد ما يعطينا دروس في الاستقلالية والحياد!

وحتى لا نتوه في التفاصيل، نلاحظ ان الاجابات في معظمها ان لم تكن متناقضة فهي مترددة لا تحسم بوضوح في المسائل الجوهرية ولا تجيب على الانتقادات الموجهة له شخصيا بشان الازمات المثارة منذ توليه مقاليد وزارة العدل فضلا عن استعارة التعبيرات الجاهزة (التي تذكرنا بمقولات “وقل اعملوا”! او “الذين يصطادون في الماء العكر!” او “ان دلت على شيء فهي تدل” او “ان الاتحاد” و”الرابطة” مكسب وطني…الخ).

وربما يكون من المناسب ان نورد في هذا السياق حكاية تروى عن جحا، كثيرا ما يجعلها المحللون للخطاب “المتخشب” مثالا عن التناقص الذي يرتبط به. حيث ينقل في هذا الباب ان جحا استعار طنجرة من جاره، فلما تأخر في إعادتها واحتاج إليها صاحبها، طرق هذا عليه الباب وذكّره بها. فقال له جحا: أولاً، أنا لم آخذ منك أية طنجرة. ثانياً، كانت طنجرتك معطوبة أصلاً. ثالثاً، لقد أعدتها إليك!.

ورغم ان الحديث عن اللغة الخشبية يمكن ان يطول، الا ان التعرف عليها مما لا تخطؤه في الغالب حاسة الذوق وملكة التمييز خصوصا عندما يجعلك القدر -من حيث لاتدري- في مواجهة اللغة الخشبية والموهوبين فيها!.

Exit mobile version