لماذا تحتضر الصحافة في بلدي ؟
الكثير من أصحاب الصحف غاضبون، لأن الحكومة لم تستمر في إعطائهم دنانير الإشهار العمومي مقابل الولاء، وهي الصيغة التي أدمنوها منذ زمن سيدهم الجنرال الرئيس بن علي، هم لا يقولون لكم الحقيقة السخيفة: كثير منهم لا يعرفون الإبداع الصحفي ولا يهمهم أصلا، لم يبنوا علاقة تعاقدية سليمة مع القارئ. قبل الثورة، كانوا يعيشون على حسنات النظام وبعض كبار المستشهرين الذين يضعون أموالهم حيث يحب النظام، انتدبوا شذّاذ الآفاق ممن فشلوا في مهنهم الأصلية فتحولوا إلى شتّامين لعّانين لكل من يفكر خارج فكر النظام، ينشرون الأخبار الزائفة ويزيفون الوعي العام مقابل الأوسمة القصديرية التي أغدقها عليهم “سيدي الجينيراليسيمو” زين العابدين بن علي، فقادوه إلى الهاوية المذلة التي نعرفها.
لم تطرح مسألة الكفاءة المهنية لأنها آخر شيء تحتاجه للنجاح في الصحافة، كان يكفي أن تكون قريبا من النظام لكي تنال رخصة حانوت إعلام، وأن تكون المالك والمؤسس ورئيس التحرير وكاتب المقالات الكريهة التي تتذكرونها، الناس كانوا يشترون جريدة، يشاهدون قناة أو يسمعون إذاعة في إطار “faute de mieux”، حين لا يكون لهم شيء يفعلونه، فيما يخترع العالم الحر ألف طريقة لنيل اهتمام الناس، الصحافة تعيد اختراع نفسها مع كل أزمة، إلا عندنا، تطلب حسنات الحكومة، هل يجرؤون أن يتهموا التونسي بأنه لا يقرأ ؟ بدل أن يعترفوا أنه لا يجد ما يستحق القراءة ؟
عندما جاءت الثورة وفتحت أبواب الحريات واسعة، وجد الكثير من أصحاب المؤسسات الإعلامية “حنكهم حوض”، الخواء والخيبة والعجز عن نيل اهتمام الناس، أما الجيل الجديد، فلم يجد للأسف معلمين ومؤطرين ينيرون له الطريق، ليستعيد تلك العلاقة التعاقدية بين القارئ ووسيلة الإعلام، مع كارثة وطنية اسمها عزوف رأس المال الوطني عن الاستثمار في الإعلام والثقافة والفكر، هذا إن كان ثمة شيء اسمه رأس المال الوطني، غير الكناطرية.