منير شفيق
ستتناول هذه المقالة موضوع القصف الصاروخي الذي شنه الأسطول البحري الأمريكي، بأوامر مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على مطار الشعيرات قرب حمص في سورية من ثلاث زوايا:
1. باعتباره عدواناً سافراً مخالفاً للقانون الدولي وله جملة من النتائج والتداعيات السلبية والخطيرة على الحياة الدولية.
2. تقويم وضعه في إطار السياسة الأمريكية، وموازين القوى الراهنة.
3. أهمية الموقف المبدئي من الظاهرة التي يمثلها.
فبالنسبة إلى الزاوية الأولى فقد لجأت أمريكا إلى الانفراد في تحديد المسؤولية عن جريمة السلاح الكيماوي في مدينة خان شيخون دون الاستناد إلى لجنة تحقيق دولية محايدة. ووجهت رداً عسكرياً بإطلاق صواريخ توماهوك الاستراتيجية على مطار الشعيرات بمخالفة خطيرة للقانون الدولي الذي لا يسمح لها بالعدوان على دولة ذات سيادة عضو في هيئة الأمم المتحدة. وقد فعلت ذلك باعتبارها الشرطيّ العالمي الذي يطبق القانون منفرداً وعلى هواه. مما يجعل النظام الدولي شبيهاً بنظام الغاب.
ولسوء حظ دونالد ترامب، لتكتمل الفضيحة، كانت الطائرات الأمريكية قد قصفت حياً سكنياً في الموصل، قبل أسبوع ذهب ضحيته خمسماية مدني أغلبهم من الأطفال الذين ماتوا اختناقاً تحت ركام المنازل المهدمة، ومزقت أجسادهم مما يشكل جريمة حرب كذلك تماماً كما يشكل استخدام الكيماوي جريمة حرب. وقبل أن يأخذ دونالد ترامب إجراءً، أو موقفاً، طالب البنتاغون بتشكيل لجنة تحقيق ليقرّر على ضوء نتائجها. أما في موضوعنا فقد ضرب عرض الحائط بتشكيل لجنة تحقيق وأصدر قراره فوراً بالرد العسكري ونفذه.
فالعالم هنا مرة أخرى إزاء ازدواجية في استخدام المعايير في مواجهة الحدث الواحد أو المشابه، وإزاء قرار أمريكي يريد أن يفرض نفسه شرطيّ العالم، والأفدح إذا ما مرّ هذا التدخل العدواني، بما لا يسمح بتكراره، أو يجعله مكلفاً سياسياً ومعنوياً في الأقل. والأسوأ إذا ما مرّ “مرور الكرام”. وحظي على تأييد عدد مقدّر من الدول.
أما الزاوية الثانية التي تتعامل مع الموضوع من ناحية وضعه في إطار السياسة الأمريكية من جهة ومن ناحية قراءة موازين القوى من ناحية أخرى.
ففي الحقيقة جاء هذا العدوان بلا مقدمات عدا ردّة فعله إزاء ضحايا الكيماوي أو إزاء استغلال المناسبة لتحقيق أغراض أخرى. فهو ليس جزءاً من استراتيجية حرب أمريكية، بل بالعكس جاء معاكساً لمقدمات سياسية تمثلت في محاولة فتح خطوط مع روسيا فضلاً عن التنسيق العسكري، بينهما، كما تمثلت في الإعلان الأمريكي الرسمي بأن الأولوية في سورية لمحاربة داعش، ولم تعد “إزاحة الأسد أولوية أمريكية، ومصيره عائد إلى ما يقرره شعبه” وفقاً لتصريح ترامب وتصريح وزير خارجيته تيلرسون. ويمكن أن يضاف هنا محدودية أضراره حين أنذر الروس بالضربة في وقت يكفي لجعلها قليلة التكاليف البشرية والمادية.
ولهذا يجيء هذا العدوان في إطار ردة فعل في مواجهة حدث طارئ وليس جزءاً من خطة حرب متكاملة. ولكن هذا لا يمنع في حالة تحقيق نتائج “إيجابية” في تعزيز هيبة أمريكا وموقعها في ميزان القوى من أن يتحوّل إلى نهج تنبع منه استراتيجية غير الاستراتيجية السابقة. ومن هنا ستكون زيارة وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيلرسون لموسكو والتقائه ببوتين ولافروف ونتائجها فارقة بالنسبة إلى السياسة الأمريكية ما بعد العدوان العسكري على مطار الشعيرات.
وكذلك ردود الفعل الأخرى المختلفة عليه، ومدى التكلفة التي ستدفعها أمريكا بسببه سواء أكانت سياسية ومعنوية أم غير ذلك.
أما من ناحية موقعه في موازين القوى فإن أيام البلطجة العسكرية قد ولت، أو أن مردودها أصبح أقل بكثير مما كان عليه في الماضي. صحيح أن العدوان العسكري كان دائماً جزءاً من السياسات الاستعمارية والإمبريالية تاريخياً. بل كان في المقدمة. وصحيح أن أمريكا سطرت سجلاً حافلاً من الحروب العدوانية والاحتلالات العسكرية أو توجيه الضربات المحدودة الجزئية في دعم السياسة. ولكن أن تعود “حليمة إلى عادتها القديمة” في عهد ترامب، فأمرٌ فات زمانه وعليه أن يعتبر من الفشل الذي منيت به حرباها ضد العراق وأفغانستان في عهد بوش الابن، ومن الفشل في أربع حروب شنها الكيان الصهيوني، تحت رعايتها، في تموز 2006 في لبنان و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة. الأمر الذي يؤكد على أن استخدام القوّة العسكرية والحرب والعدوان مصيره الفشل. ولم يعد منسجماً مع ما يسود الوضع الجديد لموازين القوى. ولكن تبقى طبيعة القوى العدوانية عدوانية حتى لو قادها ذلك إلى التهلكة.
أما الزاوية الثالثة فمتعلقة بضرورة تغليب الموقف المبدئي في التعامل مع هذا العدوان العسكري. فعلى كل من تعاطى مع هذا الموضوع أن يقرر قبل كل شيء: هل يقبل أن تكون أمريكا (المنحازة كلياً للكيان الصهيوني في اغتصاب فلسطين) شرطيّ العالم. وله أن يتخذ القرار بالعدوان العسكري ضدّ أية دولة أو شعب منفردة، وعلى هواها. فالمسألة هنا مسألة مبدأ يخص العالم كله ويخص العلاقات الدولية، ومن ثم فهو يتعدى ظروف وقوعه، ومكان وقوعه، كما يتعدى طبيعته العسكرية إلى ما سيترتب عليه من سياسات دولية تسمح لأمريكا أن تعاقب وتقاطع وتتهم بالإرهاب منفردة، كما تشاء. فأبعاده السياسية والاقتصادية ربما تأتي أخطر بكثير من القبول بها الشرطي العسكري للعالم.
ولهذا فالذين يقبلون أن يُعطى لأمريكا هذا الحق، أكان بسبب ضحايا الكيماوي أم لأي سبب آخر يرتكبون خطيئة تاريخية لأن ذلك يعني، عملياً، تعطيل القانون الدولي، وإسقاط ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وتشريع الوضع الدولي والعلاقات بين الشعوب كما بين الدول ليُحكما بقانون الغاب. وبهذا يدخل العالم في فوضى وصراعات وانقسامات دونها ما يجري الآن من فوضى وصراعات وانقسامات دولية.
بالتأكيد لا يجوز أن يسوّغ لأمريكا في أن تنفرد لتكون شرطيّ العالم فهذه قضية مبدئية ولا يصح أن تختلط بأية سياسة راهنة، ولا بسبب جريمة حرب استخدم فيها السلاح الكيماوي.