إستنبات الفتنة وزراعة الأحقاد
خالد الحدّاد
يُمعن السياسيّون في السير في الطريق الخطأ ويحجبون أنظارهم عن مسالك واضحة للخروج من الأزمات الّتي انحدرت إليها البلاد ولا يُحسنون استثمار لحظة تاريخية فارقة لبناء مشتركات جديدة تقطع مع ماضي الصدام والفتنة وغياب مظاهر العدالة الاجتماعية والعيش المشترك.
وأنت تستقرئ الخطابات السياسيّة والمواقف أو أنت تُتابع المنابر الحواريّة تُصاب بالكثير من الخيبة من نخبة بات همّها الأكبر استنبات الفتنة وزرع الأحقاد ومزيد تعقيد أوضاع البلاد، الى الدرجة التي يذهبُ فيها المتابع الى الإقرار بأنّ نخبنا الحزبيّة، على وجه الخصوص، افتقدت بوصلة للعمل الجدّي والناجع بما حرمها من قدرات لتقديم البدائل والتصوّرات المفيدة ودفعها دفعا إلى الانجرار وراء مظاهر السياسة الصغرى أو المبتدئة أو الهاوية، بما فيها من سباب وتجاذب واصطفافات عمياء وسعي محموم لافتكاك مواقع السلطة والقرار ولتقسيم المجتمع ومزيد إنهاكه وتحقيق المصالح الشخصيّة والفئويّة الضيّقة.
تتحرّك نخبتنا الحزبيّة في نفس الدائرة المفرغة التي عاشتها بلادنا منذ الفتنة بين بورقيبة وبن يوسف، وتواصلت لعقود متعاقبة بأشكال ومظاهر أخرى، والتي كان مدارها الأصلي الصراع على السلطة والهيمنة على مقدرات الدولة، وبرغم ما قدّمه التاريخ من دروس وعبر وبرغم ما أتاحتهُ الثورة وتجربة الانتقال الديمقراطي من فرص لتدارك سلبيات الماضي وبناء جديدٍ يُخرج البلاد من أتون الفتن والأحقاد، فإنّ إرادة سلبيَّة صمّاء معوجّة تكاد تكون راسخة لدى الطيف السياسي الواسع تعملُ على استدامة منابت الفتنة والحقد بل وافتعال المزيد منها بمناسبة أو بأخرى، سواء أكانت هذه المناسبة حدثا محليّا أو إقليميا أو دوليا، وسواء أكان هذا الحدث متعلّقا بملفات الماضي أو الحاضر أو استشرافيا للمستقبل.
لقد عجزت أحزابنا عن بناء مشتركات وطنيّة صلبة يتحرّك تحت سقفها الجميع ويعمل الكل على تدعيمها وتكريسها على أرض الواقع إيمانا بقيم العيش المشترك والحق في الاختلاف والتسليم بعلويّة الدستور والقانون وتثمين مكسب حريّة التعبير والتنظّم وتجربة الإرادة الشعبيّة في الانتخاب والتداول السلمي على السلطة والمضي خطوات في تنفيذ الاستحقاقات الاجتماعية والتنمويّة ومجابهة التحديات الاقتصاديّة الماثلة.
حالة العجز هذه، أصبحت مسألة واضحة وجليّة للعيان وهي على غاية من الخطورة، لأنّها تطلق في كلّ حين نواقيس التحذير من ذهاب الأوضاع نحو المزيد من التعقيد والضبابيّة وغياب لإمكانيّة وقوف كلّ الفرقاء، وخاصة الطامحين منهم إلى الحكم والسلطة، وقفة تأمُّل تنهي حالة الانهيار المتواصل لقيم الممارسة السياسيّة واحياء بعدها النبيل في خدمة الصالح العام والنأي بالقضايا المصيريّة والعاجلة عن التجاذب أو محاولات التوظيف وخدمة المصالح الضيّقة، والاتفاق على منطقة وسطى تتلاقى فيها الإرادات لإنقاذ البلاد من براثن المجهول وصدّ كلّ أجندات الفتنة والتخريب الّتي تضرب منذ فترة كامل المنطقة.
عرفت بلادنا عدّة منعرجات خطيرة على مدار السنوات السّت الماضية لم تُغادرها إلاّ بالحوار والتوافقات والتسويات والتنازلات المتبادلة الّتي وأدت نيران الفتنة والحقد، فكفى أحقادا، وكفى بثّا للفتنة.