المواقف البائسة والمبتذلة !
عبد الجليل التميمي
كم هو بائس موقف بعض أفراد المجتمع المدني التونسي الذي تبنى موقفا معارضا لتدريس اللغة التركية في معاهدنا وقد لاحظت خلال الأسابيع القليلة الماضية عديد المواقف والتي نادت بعدم تدريس اللغة التركية ومناهضة وبشدة الرجوع للعهد العثماني في بلادنا ! ودون أن أتوقف حول مواقف السيد رجب طيب أردوغان من الأحداث الدامية والتي عرفتها الساحتين التركية والسورية ومدى التضييق الخطير على حرية الصحافة الذي عرفته تركيا بعد فشل الانقلاب يوم 15 جويلية الماضي، فقد يستوجب على الجميع العمل على مقاربة هذا الملف بطريقة أخرى أكثر إدراكا للمعطيات الجيوسياسية المغيبة اليوم، ولكني أحرص وأنا المهتم منذ نصف قرن بتاريخ الدولة العثمانية لإبداء عديد الثوابت المغيبة لكل من عارض تدريس ملف اللغة التركية في معاهدنا.
لقد طلب مني عديد الأصدقاء الذين أجلهم إنارة الرأي العام من تداعيات هذا الموقف المتدهور والمسيس والذي أبدته الصحافة التونسية تجاه رفض تدريس اللغة التركية في معاهدنا، وأحب أن أذكر هنا بأني أول باحث درس اللغة التركية منذ نصف قرن وتعلم الكثير من الأرشيفات العثمانية والتي تقدر بـ 150 مليون وثيقة، وثلاثة أرباعها عن البلاد العربية، وقد عثرت على جواهر ثمينة جدا من الوثائق التي وظفتها في أبحاثي ونبهت من أول يوم لدى تأميني تدريس التاريخ العثماني بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية ونصحت يومئذ بحتمية تعلم اللغة التركية وتوظيفها في كل الكتابات التاريخية عن العهد العثماني، وأذهب إلى الاعتقاد أن كل البحوث التي أنجزت عن تونس ولم توظف أرصدة الأرشيفات العثمانية تعد أعمالا غير مستوفاة للشروط المنهجية لتأطير الحقيقة عن العهد العثماني في بلادنا.
كذلك يوجد اليوم بمكتبات تركيا حوالي ثلاثة مائة ألف مخطوط باللغة العربية، وهنا أتوقف حول ما ذكره عديد المؤرخين الفرنسيين والأتراك حول أهمية البحوث التي تم انجازها عن العهد العثماني وعدوها إيجابية جدا، ولا أدل على ذلك من المقال الذي حرره المؤرخ الكبير Xavier Yacono في Revue Historique بباريس سنة 1975 حول بحوثي وكذلك Charles Robert Ageron وYvon Turin مؤكدا على أن الوثائق العثمانية قد فتحت عالما جديدا ومهما جدا في كتابة تاريخ تونس والإيالات العثمانية عن العهد العثماني. وعلى ضوء ذلك نظمنا 17 مؤتمرا علميا ونشرنا بضعة آلاف عن الوثائق التركية والتي تمكنا من كتابة فصول لم ينجزها أحد في الوطن العربي.
وقد نصحت طلابي منذ 40 سنة من التوجه إلى استانبول لتعلم اللغة التركية، وأنا أتوجه إلى هؤلاء الجهلة والأغبياء لإحاطتهم علما أنه لا يوجد جامعة في الولايات المتحدة ولا في أوربا لا تدرس اللغة التركية، وأن هناك عشرات المختبرات البحثية المتخصصة في هذا المجال.
بل أن البحث التاريخي التركي يتقدم جدا على مجمل البلاد العربية وأن جامعة بلكنت الخاصة مثلا تعد أهم جامعة في الشرق الأوسط برمته عندما التحق بها أهم رموز المؤرخين الأتراك والدوليين وعلى رأسهم Halil Inalçik الذي توفي مؤخرا وهو في سن المائة ومنح للمعرفة والبحث التاريخي العثماني أجمل عطاء.
أين هي الجامعات العربية والتي واكبت فعاليات البحث التاريخي التركي وأنا أؤكد بأننا نجهل تركيا تماما ما عدا بعض المؤرخين العرب الذي يواكبون انجازات تركيا اليوم في جميع الميادين، كما أؤكد من جديد أن الوطن العربي منذ خمسين سنة لم يواكب ما حققته تركيا، وأن البون شاسع جدا بيننا وبين تركيا اليوم.
لقد بينت أعلاه أنا ملتزم بالثوابت المنهجية لكتابة تاريخ تونس والجزائر وطرابلس، مشددا على أن تاريخ تونس خلال ثلاثة قرون من العثمنة، لا يمكن تأطيره إلا من خلال أرصدة الأرشيفات العثمانية أولا، وكان الأولى على المنادين بعدم تدريس اللغة التركية أن يتجنبوا تقديم مثل هذا الرأي البائس، خاصة وأنهم غير مؤهلين تماما لتقديم مثل هذه النصائح المبتذلة…