مقالات

الدولة العلمانية المستحيلة (جـ)

محمد مختار الشنقيطي

لا يزال العقل المسيحي -بشِقَّيه الغربي والعربي- عاجزاً عن استيعاب عِناق الديني والمدني في النص الإسلامي واندماجهما في التجربة التأسيسية الإسلامية. والعجَب ألا يزال مفكرون عرب في القرن الواحد والعشرين عاجزين عن إدراك طبيعة الإسلام المركَّبة من الديني والمدني، وقد أدرك ذلك مفكرون غربيون منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر، منهم جان جاك روسو، وغوستاف لوبون. فقد انتقد روسو ازدواجية الديني والمدني في التاريخ المسيحي، وبيَّن أن الإسلام تغلَّب على هذه المعضلة ذات الجذور المسيحية، فكتب: “تأتَّى من هذه السلطة المزدوجة تنازعُ الاختصاص الأبديِّ الذي جعل قيام أي سياسة صالحة أمراً محالاً في الدول المسيحية. وهكذا لم يخْلُص الناس قطُّ إلى معرفة مَن مِن الأمير أو الكاهن يجب عليهم أن يطيعوا… ذلك أن روح المسيحية قد جرفت كل شيء، [ف]ظلت الشعائر الدينية المقدسة على الدوام مستقلة عن صاحب السيادة، أو قلْ عادت مستقلة عنه كما كانت، لا تربطها بجسم الدولة رابطة عضوية. وأما محمد فكانت له تصورات قويمة جداًّ، فإنه شدَّ عُرى نسقه السياسي. وطالما أن شكل الحكم الذي أقامه قد استدام في عهد الخلفاء الراشدين، فإن هذا الحكم كان واحداً هو هو تماما، فكان لهذا السبب عينه حكما صالحا.” (روسو، في العقد الاجتماعي، 241).

أما غوستاف لوبون فقد تساءل باستغراب: “كيف لا يبقى الإسلام دين الدولة في بلاد اتَّحد فيها الشرع المدني والشرع الديني وقامفيها المبدأ الوطني على الإيمان بالقرآن؟ يصعُب هدم ذلك. (لوبون، روح الثورات، 42). وربما كان علي عزت بيغوفيتش من أبلغ من عبَّروا عن هذا التركيب الإسلامي البديع، وعن عجز العقل المسيحي عن استيعابه، إذ كتب يقول: “الإسلام نسخة من الإنسان. ففي الإسلام تماما ما في الإنسان: فيه تلك الومضة الإلهية، وفيه تعاليم عن الواقع والظلال. بالإسلام جوانبُ قد لا تروق للشعراء الرومانسيين، فالقرآن كتاب واقعي لا مكان فيه لأبطال الملاحم. والإسلام بدون إنسان يطبّقه يصعُب فهمُه، وقد لا يكون له وجود بالمعنى الصحيح.. لم تستطع المسيحية كذلك أن تتقبل فكرة أن يظل الإنسان الكامل إنسانا، ولكن محمدا ظلَّ إنسانا فقط.. لقد أعطى محمد صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للإنسان والجندي في الوقت نفسه، أما عيسى عليه السلام فقد خلَّف انطباعا ملائكيا.” (بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، 280-281).

ويبدو وائل حلاق في كتاب (الدولة المستحيلة) مستأسِراً -بشكل شعوري أو لاشعوري- لخلفيته المسيحية. وهذا ما جعله يستبطن جُملة من المسلَّمات الضمنية في العلاقة بين الدين والدولة لا تمتُّ إلى الإسلام نصاًّ وروحاً بأية صلة، وإنما هي انعكاس للمنظور المسيحي لعلاقة الدين بالدولة. وتكاد عبارة حلاق التي صدَّر بها كتابه: “مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي،” (الدولة المستحيلة، ص 19) استنساخاً حرفياًّ لعبارة روسو: “أُخطئ بقولي: جمهورية مسيحية، فإن كلتا الكلمتين تنافي الواحدة منهما الأخرى.” (في العقد الاجتماعي، 247).

أما في السياق العربي، فلم يكن حلاق مبتدعا، بل هو متَّبِع. فالجذور المسيحية للعلمانية العربية ليست بالأمر الجديد، بل هي أمر لاحظه أكثرُ من باحث منذ أمد بعيد. ومن هؤلاء الباحثين حسن حنفي الذي كتب: “قام العلمانيون في بلادنا منذ شبلي شميِّل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، ونقولا حداد، وسلامة موسى، وولي الدين يكن، ولويس عوض، وغيرهم.. يدْعون إلى العلمانية بهذا المعنى الغربي: فصْل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. والملاحَظ أنهم كلهم كانوا من النصارى، وغالبيتهم من نصارى الشام، الذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب، ولا ينتسبون إلى الإسلام ديناً أو حضارة، وتربَّوا في المدارس الأجنبية وفي إرساليات التبشير. فكان الأسهل في دعوتهم الصادقة للتقدم والنهوض بالبلاد أخْذ النمط الغربي الذي عرفوه ودعوْا إليه، ورأوه ماثلاً في تقدم الغرب الفعلي.” (حنفي، “العلمانية والإسلام،” ضمن كتاب حنفي والجابري، حوار المشرق والمغرب، 35-36.)

ونحن نتفق مع حنفي في الجذر المسيحي للعلمانية العربية، وفي أن بعض كبار منظِّري العلمانية العربية في مطالع القرن العشرين كانوا مسيحيين شاميين، ولا يزال بعض أبرز منظريها في أيامنا مسيحيين شاميين. وقد فشل هؤلاء المثقفون المسيحيون عن إدراك أمر جوهري في الإسلام، وهو أن الإسلام منظومة دينية ومدنية في الوقت ذاته، ولا يصلح وصف النظام السياسي الإسلامي أو القانون الإسلامي بأنه ديني محض أو مدني محض. فهذه المصطلحات المسيحية الجذور لا تتَّسع لفهم الشريعة الإسلامية، بل تؤدي إلى قياسات كاريكاتورية، مثل حديث جورج طرابيشي عن “الإسلام المكي الروحي والإسلام المدني الزمني” (طرابيشي، هرطقات، 22) في حين أن الإسلام في مرحلتيْه المكية والمدنية كان مشحونا بالروحانيات وبالسياسة العملية في الوقت ذاته، ويكفي أن جذر القيم السياسية الإسلامية -وهو قيمة الشورى- وردت في سورة الشورى المكية أولا، ثم في سورة آل عمران المدنية بعد ذلك.

على أننا لا نتفق مع حسن حنفي في تعميمه، فالدعوة العلمانية العربية لم تكن ظاهرة مسيحية حصرا، بل كان من بين دعاة العلمانية دائما -حتى في أشدِّ تعبيراتها فجاجةً- عرب مسيحيون وعرب مسلمون. كما أننا لا نتفق مع حنفي في تجريد هؤلاء المثقفين المسيحيين العرب من الانتساب للحضارة الإسلامية. فبعض هؤلاء ينتسبون بالفعل للحضارة الإسلامية بمعناها الثقافي. ويكفي أن نعرف أن عدداً وافراً من شعراء نصارى الشام -وأوَّلهم شبلي شميِّل الذي صدَّر به حنفي قائمته- امتدحوا النبيَّ محمداً صلى الله عليه وسلم في أشعارهم، رغم أنهم ليسوا مسلمين. وقد حصرتْ الباحثة السورية غادة غزال هؤلاء الشعراء، وجمعتْ المدائح النبوية التي صاغوها شعراً في رسالة ماجستير بعنوان: (المدائح النبوية في شعر المسيحيين العرب المعاصرين) كنت تشرفتُ بالإشراف عليها في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمَد بن خليفة في قطر.

لكن تبقى العلمانية فكرة مسيحية لا إسلامية، بغضّ النظر عن كون دعاتها مسيحيين أو مسلمين. وقد استبطن العلمانيون المسلمون في العالم العربي الذين يعادون رسالة الإسلام السياسية ووظيفته في الشأن العام وفي التشريع هذا المنظور المسيحي ضمن ما استبطنوه من ثقافة غربية. ونظرا للجِذر المسيحي للعلمانية العربية -سواء بشَّر بها مسيحيون أو نظَّر لها مسلمون يستبطنون منظورا مسيحيا- فإن مترجم كتاب “الدولة المستحيلة” الطيِّب القلب لم يكن بحاجة إلى القول: “قد يَدْهش القارئ حين يعلم الآن أن وائل بشارة حلاق وُلد في الناصرة مدينة المسيح في فلسطين المحتلة، عام 1955 لأسرة مسيحية.” (الدولة المستحيلة، ص 13).

فما الذي يُدهش في وجود مثقف مسيحي ينظِّر للعلمانية في العالم الإسلامي؟! إن الذي يُدهش حقا هو مستوى السذاجة الذي تلقَّى بها مثقفون مسلمون نظريات حلاَّق، حتى اعتبروه مُنقذاً للإسلام من الحداثة ومن طعنات المستشرقين، دون إدراكٍ لأبعاد الرسالة التي يسعى حلاق إلى تمريرها تحت غبار المعركة مع الاستشراق أو مع الحداثة، وهي رسالة تؤدي إلى فرض منظور مسيحي على الثقافة الإسلامية، يناقض جوهر الإسلام وروحه!

إن المثقف المسيحي -غربياًّ كان أو عربيا- حين يبشِّر بالعلمانية فهو يعود إلى أصله، ويعيش منسجما مع ضميره وروح دينه، لأن العلمانية منسجمة تماما مع روح الديانة المسيحية، و“ما تمَّ في العصر الحديث من الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية هو عوْدٌ إلى روح المسيحية الأولى.” كما لاحظ حسن حنفي بحق (حوار المشرق والمغرب، ص 34). بينما المثقف المسلم حين ينظِّر للعلمانية فهو يعيش اغتراباً عن الذات، واستعلاءً على أمَّته وضميرها ودينها، ويقود مجتمعه إلى الاستبداد والانشطار والحروب الأهلية.

الدولة العلمانية المستحيلة (أ)

الدولة العلمانية المستحيلة (ب)

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock