صالح التيزاوي
في إطار جلسات الإستماع العلنية لضحايا الإنتهاكات، وبمناسبة عيد الإستقلال، قدم اليوسفيون شهاداتهم عن الظروف والملابسات التي حفت بعملية الإستقلال، وما رافقها من خلاف بين الزعيمين: بورقيبة وبن يوسف، وكيف تطور الخلاف إلى مواجهات أفضت فيها الغلبة إلى الشق المدعوم من قوة الإحتلال، والأكثر احتيالا على الشعب.
أبدى النوفمبريون انزعاجا شديدا من هذه الشهادات، وصل إلى حد التشكيك فيها، والتشكيك في الهيئة، وفي رئيسة الهيئة، وبهذه المناسبة، نقدم الملاحظات التالية:
لو جاء التشكيك من الدساترة لكان الأمر مفهوما: لأن بعضهم رافق بورقيبة في الكفاح، والبعض الآخر تأثر بفكره، وبمسلكه في الحكم، وشهدوا معه ما اعتبروه إنجازا للدولة الوطنية: (التعليم، الصحة، حقوق المراة). لكن أن تأتي الهجمة من العصابة النوفمبرية فهذا الأمر، يدعو إلى الشك والريبة فيما قالوا: إنه “تزييف للتاريخ” و”تشكيك في وطنية بورقيبة وزعامته”. والتاريخ، عندما يكتب بمنطق الغلبة والغنيمة، ألا يعتبر تزويرا ؟
يعني أن هجمتهم في ظاهرها وفاء لبورقيبة، وفي باطنها حسابات أخرى لها علاقة بالمحطات الإنتخابية القادمة. لماذا لم يعبروا عن ولائهم لبورقيبة، عندما انقلب عليه المخلوع وأذله؟ حيث منعه من التواصل مع العالم الخارجي، ولم يتجرؤا على زيارته في محبسه، حتى لا يغضبوا “صانع التغيير”، ولماذا لم يسيروا حتى في جنازته؟ فهل حزنوا عليه في السر؟ وإن كان الأمر كذلك أليس مستهجنا أن يتباكوا اليوم في العلن على تاريخ الزعيم ويخافوا عليه من شهادة استغرقت من الوقت أقل من حلقة واحدة في المسلسلات التاريخية “من توجيهات الرئيس” و”أرضي وفاء ووعود”و “قافلة تسيير” و”المدائح والأذكار” كل صباح في الإذاعة الوطنية، وفي المناسبات الوطنية، وفي أعياد الميلاد تمجيدا لزعيم الأمة.
بداية مهما اتفقنا أو اختلفنا مع الشهادات المقدمة يجب أن لا تضيق الصدور بها، ويجب أن لا تكون ذريعة للمطالبة برأس الهيئة، لأننا قضينا ستين عاما بحالها ونحن نستمع لرواية واحدة، ووجهة نظر واحدة، وشهادة وواحدة، تعكس إرادة الغالب (بورقيبة وجماعته) الذين كتبوا تاريخ الإستقلال بأنفسهم، بعد استئصال الحركتين الزيتونية واليوسفية.
إنه من حق المؤرخين، ومن حق الشعب التونسي ان يقتنصوا هذه الفرصة التي أهدتها لهم الثورة التونسية للإستماع إلى شهادات من كانوا طرفا في الكفاح ضد الغازي الفرنسي، ومن كانوا طرفا في الخلاف مع بورقيبة، ومن تم تغييبهم قسرا في كتابة تاريخ تونس الحديث؟ حتى يتسنى للشعب التونسي أن يعرف حقيقة ما جرى إبان مرحلة الكفاح ضد الإستعمار ومرحلة الإستقلال (حقبة الحكم البورقيبي” تحقيقا لمصالحة الدولة مع مواطنيها، وللتونسيين مع تاريخهم.
ركزت الجوقة النوفمبرية مع شهادة السيد حمادي غرس مما يدل على أنها لامست الحقيقة، حيث اتخذوها مطية للحديث عن أخطاء منهجية، وأخرى حرفية، ارتكبتها الهيئة، وقيل إن هذه الشهادة منتقاة، تعكس وجهة نظر رئيسة الهيئة، التي تبدو حسب نظرهم هي الخصم والحكم…
بنفس هذا المنطق نقول لهؤلاء: أليس من حقنا أن نشككك في بعض الأحداث التاريخية لأنها كتبت على عين بورقيبة وكان قد اصطنع كتابها لنفسه، وكان هو الخصم والحكم. تصف المناهج التربوية في مادة التاريخ خلاف صالح بن يوسف مع بورقيبة حول ماهية الإستقلال. “بالفتنة اليوسفية”، وبما أن “الفتنة أشد من القتل”، فإن صالح بن يوسف يستحق القتل “حماية” للمجتمع التونسي من الفتنة. هكذا يضيق بورقيبة بالرأي المخالف فيعتبره فتنة توجب القتل، تماما كما ضاق صدر النوفمبريين بشهادة دامت بضع دقائق، وهكذا يتعامل بورقيبة مع الإسلام بانتقائية، يأخذ منه ما به يبرر موقفه.
مما لا جدال فيه أن أشياع المخلوع ومزوري التاريخ أزعجتهم شهادات اليوسفيين لانهم يعتقدون أن كشف الحقيقة، قد يطيح بالنموذج البورقيبي، في الحداثة وفي الحكم وفي العلاقة بالإسلام وفي اختيارات أخرى.
وأن هذا الفراغ الذي سيتركه سقوط النموذج البورقيبي، قد تملؤه أحزاب جديدة دفعت بها الثورة إلى واجهة المشهد السايسي، وقد تتهاوى الأحزاب التي بنت شرعيتها على “الميراث البورقيبي”.