كمال الشارني
عن القتل باسمك، وباسم بقائك الأبدي في السلطة إلى حد التعفن،
يجب أن يكون عمري ثمانية أعوام حين تسلمت جائزة مدرسية من يدي بورقيبة في قرية سد وادي ملاق شمال مدينة الكاف، يجب أن يكون ذلك، كما هو في ذاكرتي، بعد أعوام هدير الفيضانات الرهيبة، حين رأينا المواشي والدجاجات وجدران البيوت الطينية والأرض نفسها تحملها السيول العنيفة في الوجه الشمالي من دير الكاف.
حقا، أبذل جهدا لاستحضار الصورة لأن تسليم الجائزة حدث في الليل، بعد أن قضينا سأم ما بعد الزوال كله في انتظار الزعيم، ذاكرتي عاطفية، لا أذكر فيها أن بورقيبة قبلني أو قال لي شيئا أو أني نظرت له، فقط أن أحدا ما جرّني من يدي بعنف ودفعني إليه وسط أضواء وتصفيق ولم يكن معي، في محنة تلك السن سوى أبي الذي أجبروه على البقاء بعيدا، كل ما أذكره هو عنف حضور الغرباء عن القرية والريف، وأني كنت مازلت مريضا بفقدان صديق طفولتي “جمّال ولد جفال” الذي أكلته الذئاب في أفريل الحزين من ذلك العام على طريق المدرسة، ولم نعثر منه سوى على بقايا قدميه في البوط البلاستيك الذي أغروه به لكي يستمر في الدراسة، كان كل أهلي يعتبرونه ضحية التعليم الإجباري، لولا بورقيبة لما ذهب إلى المدرسة، ولما أكلته الذئاب، أنا نفسي، كنت مهيئا، لولا بورقيبة، لأن أكون راعي أغنام جيد: أتزوج في سن الثامنة عشر إحدى بنات عماتي أو خالاتي اللاتي أخلط أسمائهن، أنجب فريقا من الأبناء والبنات الذين يتوارثون مهنة الرعي والعيش في الريف والجبل، صناعة مردومة الفحم في الشتاء، التقاط ثمار الكبار صيفا والحصاد ومحنة جلب الماء على الظهر كل يوم من العين، وأربي أثني عشر كلبا عربيا شرسا من ذوات الأنف الطويل، تلك الحياة التي كانت تسميها أحب خالاتي إليّ “الشقاء”.
بورقيبة لم يأت يومها لأجلي ولا لأجل أطفال الريف أو “بلدية” قرية سد وادي ملاق، (كنا منقسمين: بلدية يتكلمون بالقالة، موظفون في وزارة الفلاحة والستاغ والتعليم وقرية أطفال بورقيبة يأتون كلهم من تونس، ونحن الريفيون الذين ينتمون إلى عالم آخر، كانوا يسموننا الأهالي les indigènes)، بورقيبة جاءنا من باب القلق، لأنه كان يقيم عندنا في مدينة الكاف كل صيف علاجا لأمراضه التي لا يفهمها أحد، ومن المرجح أنه لم يجد شيئا يفعله لمقاومة القلق والسّأم وقتها غير القدوم إلينا، ليوسع باله لا غير.
بورقيبة فرض إجبارية ومجانية التعليم، ربما كانت فكرة رائجة قبله، أو في مجتمعات أخرى، لكنه فرضها في تونس، حرص عليها بنفسه، وأنا أول المستفيدين منها، لقد ذهب ضحيتها “جمّال ولد جفال” مخلفا لي لوعة وخوفا لا علاج له من الاحتمالات المخيفة في هذا العالم، إنما تساءلت، وأنا في سن الثامنة عشر، في زنزانة انفرادية متنقلا بين سجون بورقيبة غير الوطنية، عن المعنى من فرض نعمة التعليم، ثم إرسال من يتعلم إلى السجون من أجل الاختلاف في الرأي، عن معنى أن تكون محررا، ومستفيدا من تعذيب خصومك إلى حد الموت، عن القتل باسمك، وباسم بقائك الأبدي في السلطة إلى حد التعفن، حتى يلفك أحد جنرالاتك في ملاءة مستعملة، لكي يرمي بك في سجن مقنع نهاية مريعة للزعيم، عن مرض السلطة في العالم العربي.
رواية “أحباب الله”، بدأتها في سجن الكاف المدني، جانفي 1986 تحت عنوان “رسالة إلى السيد الرئيس”، وما زالت الفكرة تغريني: الكتابة إليه حتى وهو في قبره وهم يتزاحمون على صورته بعد أن غدروا به، أولئك الذين استباحوا التعذيب إلى حد القتل باسم بقائه في السلطة في عبادة الطاغية، على أن أكتب إليه بصوت طفل صغير في سن الثامنة، بمنديل مدرسي وحذاء من البلاستيك من الإعانة، “سيدي الرئيس، لماذا فعلت بنا وبك كل هذا ؟”، على أن أضيف إليها: “سيدي الرئيس، قم لهم من قبرك لتطردهم، فهم الذين شردونا باسم بقائك الأبدي في السلطة”.
إلى بورقيبة في ذكرى رحيله

كمال الشارني