تدوينات تونسية

تلامذتنا المنضبطون

ليلى حاج عمر
في ضوء التّقرير العالمي الذّي جعل تلامذتنا في المرتبة الأخيرة عالميّا من حيث الانضباط
تلامذتنا المنضبطون
ـ ياسين اجلس كما يجب أرجوك
ـ المقعد ضيّق سيدتي.. سأحاول
يمرّر ساقا طويلة أولى إلى الأمام ثمّ ساقا ثانية ويجلس منطويا كأنّما هو منقسم إلى نصفين.
يضيق به المقعد فيحاول فتح نافذة لا عروة لها وبلّورها متداع. يفتحها فيهبّ تيّار هوائيّ وتطير أوراق الفرض وتصرخ زميلته:
ـ ياسين أغلق النّافذة أشعر بالبرد والفرض طار.
ـ لم تصرخين ندى.. يمكن أن نطلب ذلك بأدب.
ـ آسفة سيّدتي.. حاضر
يدخل مع الثّامنة وعشرون دقيقة عبد المجيد منهكا.
ـ صباح الخير عبد المجيد.. هل تعرف السّاعة الآن؟
ـ أجل سيّدتي.. القطار تأخّر نصف ساعة كاملة.
ـ أين تقيم؟
ـ في سليمان. كلّ يوم أستقلّ حافلة وقطارا لا يأتيان في الموعد.
ـ طيّب اجلس. خذ ورقة الفرض واشرع في العمل.
تلحق به مجموعة تقيم في مناطق بعيدة.
ـ سيّدتي لا نجد أين نجلس.
ـ تفضّلوا أحضروا طاولات وكراسي. لا نستطيع الانتقال إلى قسم آخر كلّ الأقسام تعمل.
يغيبون ربع ساعة. يأتون بالطّاولات والكراسي وفي الأثناء يحدثون جلبة كبرى. أحدهم يقسم الطّاولة إلى نصفين ليستطيع إدخالها بصعوبة وبسرعة وقد فاته وقت الفرض. يهبّ البعض إلى مساعدته في حين يكتفي البعض بالانزعاج.
يستقرّون بعد لأي. ويعمّ الهدوء.
ـ سيدتي ما هو المحور الذّي ندرسه؟
ـ هو ما درسناه وأنت غائب.
يسلّم الورقة بعد ساعة شبه فارغة. أسأله
ـ لم تتغيّب؟
ـ سيّدتي والدي يقول لي ركّز على المواد المميّزة: الرياضيات والفيزياء والتقنية. أنا لا أحضر دروس الفلسفة والعربيّة والفرنسيّة والانجليزيّة. يقول لي: لا تضيّع وقتك فيما لا يعني يجب أن تنجح مهما كان الأمر.
ـ طيّب أظنّك الآن كبير وقادر على اتّخاذ القرار بنفسك. حاول أن تحضر بعض حصص المراجعة الأخيرة في الفصل على الأقلّ.. من أجلك
ـ حاضر سيدتي
ـ تعدني
ـ أعدك.
يلحق به أخرون
ـ سيّدتي نحن نتغيّب عن كامل المواد حتّى العلميّة. ندرس خارج المعهد.
ـ لم؟
ـ نقوم بحصص مكثّفة في المواد العلميّة وبعضها في أوقات الدّرس بالمعهد.
أكتفي بالصّمت. وفي الدّاخل قلبي يبكي التّعليم العمومي الذي قضّيت نصف عمري فيه، والذّي سأدافع عنه بقيّة عمري الباقي.
أتأمّل غرق البقيّة في الكتابة رغم الظّرف المحيط العاصف. هل يمكن أن نتّهمهم بعدم الانضباط ما لم نوفّر لهم كلّ أسباب الانضباط؟ بدءا من الطّاولة إلى النّافذة السّليمة إلى البرنامج إلى المناهج إلى الوليّ المسؤول إلى الحافلة التي تأتي في الوقت إلى القطار المريح إلى الأستاذ المحبّ الرّفيق رغم كلّ شيء ورغم قلبه الذّي قد يتوقّف حينا من فرط الإرهاق إلى الأستاذ الذّي لا يستثمر في الدّرس خارج القسم للرّبح ولطعن زميله في القسم إلى الإعلامي النّظيف الذّي لا يروّج الأراجيف ولا يثير القضايا الزّائفة والأطروحات الكاذبة إلى رجل الأعمال غير الفاسد إلى صاحب المؤسّسة الذّي يتهرّب من دفع الضّرائب إلى المثقّف الذّي يصنع المعنى داخل اللّامعنى إلى السّياسي المنضبط للقانون..
أجل إلى السياسي المنضبط أوّلا.. وأخير
شكرا لتلامذتنا.. المنضبطين رغم كلّ اللّانضباط حولنا.
رغم كلّ الفوضى وثقافة اللّامعنى السّائدة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock