يبدو لي أن أكثر من ناقشوا كتاب وائل حلاق “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” في العالم العربي ينقصهم الاطلاع على مسيرة المؤلف العلمية، وطريقته في الحِجاج. لذلك سنضع الكتاب والكاتب في سياقهما، قبل أن نخوض في بعض ما ورد في هذا الكتاب ذاته في حلقات قادمة. وأهم ما يسترعي الانتباه في خلفية حلاق أمران: أنه قليل البضاعة في التراث السياسي الإسلامي، وأنه صاحب طريقة ملتوية في الحِجاج، خصوصا حين يتحدث عن حاضر الإسلام ومستقبله.
فأما بضاعة وائل حلاق الزهيدة في معرفة النص السياسي الإسلامي والتراث السياسي الإسلامي فيدركه كل من تتبَّع مسيرة الرجل العلمية، واطَّلع على ما أنتجه من كتابات خلال عمره الأكاديمي المديد، وهو أمر -للأسف الشديد- لا يعرفه كثيرون من المحتفين بكتابه اليوم من الشباب العربي الساذج الذي لم يقرأ لحلاق إلا كتاب “الدولة المستحيلة” مصحوبا بالكثير من الصخب والدعاية “للبروفسور في جامعة (ماكجيل) الكندية العريقة.” أما من يستخدمون الكتاب أداة دعائية ضد منافسيهم السياسيين من القوى الإسلامية، أو سلاحا أديولوجيا ضد الإسلام كدين، فلا يهمهم أن يعرف الشباب العربي الكثير عن مؤلف الكتاب.
فرغم أعمال حلاق الواسعة في تاريخ الفقه وعلم الأصول، فإنه لم يكتب أي شيء يُذكر في الفقه السياسي الإسلامي، ولا تدل كتبه العديدة على أي اطلاع يُعتدُّ به على الفكر السياسي الإسلامي، ويؤهله للمغامرة بنظرية “الدولة المستحيلة” والاستثناء الوحيد هو مقال نشره منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما بعنوان: “الخلفاء والفقهاء والسلاجقة في فكر الجويني السياسي” (العدد 74 من “مجلة العالم الإسلامي” الصادر عام 1984). وهو مقال لا يعدو أن يكون تلخيصا بسيطا لبعض آراء الجويني، مع توضيحات لسياق عصره، بالاعتماد على كتابات ثانوية مثل أعمال المستشرقين: روزنتال، ولامبتون، وهاملتون جيب.
وقد جاء كتاب “الدولة المستحيلة” مرآةً فاضحةً لبضاعة حلاق المزجاة وزاده الزهيد في الاطلاع على النص السياسي الإسلامي والتراث السياسي الإسلامي. فهذا الكتاب المحشو بالأحكام التعميمية عن الظاهرة السياسية في الإسلام وعن المستقبل السياسي للمجتمعات الإسلامية لم يرجع صاحبه للنص السياسي الإسلامي في صيغته المعيارية الملزمة عند المسلمين (القرآن والسنة)، ولا قدَّم أي استقراء للتاريخ السياسي الإسلامي المليء بالخبرة والعبرة، ولا رجع إلى أمهات التراث السياسي الإسلامي التي يصل عددها إلى المئات.
فلم يَرد من كتب التراث السياسي الإسلامي كتاب “الدولة المستحيلة” سوى أربعة كتب لابن الطقطقي والماوردي والطرطوسي والمقريزي. بينما امتلأت هوامش الكتاب بمراجع الفروع الفقهية التي لا شأن لها بالدولة والحكم. وهو أمر يكشف ضيق باع حلاق في التراث السياسي الإسلامي، ونظرته المحدودة بحدود فقه الفروع، وهي نظرة لا تُسعف في بناء تصور واضح عن المسألة السياسية في الإسلام، فضلا عن أن تمكِّن من المجازفات وإطلاق الأحكام التعميمية في هذا المضمار. وبعض نصوص “الدولة المستحيلة” مجرد إعادة صياغة لآراء حلاق في كتبه الفقهية، بعد أن نقلها من السياق القانوني إلى السياق السياسي.
وأعتقد أن حلاق قد أساء إلى نفسه وإلى تراثه العلمي وما راكمه من جهد نظري في تاريخ الفقه والأصول، حين قفز إلى الحديث فيما لا يحسن، سعياً إلى تسجيل نقاط أدييولوجية في صراع الأفكار الدائر في العالم عن الإسلام والسياسة، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، واشتداد الاستقطاب الإسلامي العلماني في المجتمعات العربية.
فمهما يكن من تحفظات على كتابات حلاق الفقهية والأصولية، فإنها أفضل بكثير وأقوى تماسكا مما قدَّمه من الأفكار ذات صلة بالقيم السياسية والفكر السياسي التي عرضها في كتاب “الدولة المستحيلة.” فقد تناول حلاق قضية الدولة من منظور فقه الفروع، لا من منظور الفقه السياسي، وأدى به هذا إلى الوقوع في عُقد نظرية شتى لا يملك لها حلاًّ، ودعاوى عريضة لا يملك الأهلية للتدليل عليها.. ومن خاض فيما لا يُحسن أتى بالعجائب، كما يقال.
والأمر الثاني الذي يَحسُن بقارئ “الدولة المستحيلة” أن يدركه، ويتعاطى معه بفطنة وحكمة، هو طريقة وائل حلاق الملتوية في الحِجاج، خصوصا إذا تعلَّق الأمر بحاضر الإسلام ومستقبله. لقد كتب حلاق في نقده للمستشرقين: “من الشروط الأساسية للفاعلية الإقناعية لأي خطاب أن لا تكون مهدوفات [=دوافع] الخطاب واضحة لدى القارئ أو المستمع.” (حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، 13) ولا أعلم كاتبا طبَّق هذه الحيلة الذهنية غير النزيهة لإقناع قرائه المسلمين بفكرته عن الدولة الإسلامية والقانون الإسلامي أكثر مما فعل حلاق نفسه.
فالغايات السياسية والأديولوجية -وحتى الدينية- التي يهدف إليها حلاق تأتي دائما متسترة بلغة ملتوية، وبحِجاج يسير في دروب متعرجة مُعتمة. فهو يبالغ في الثناء على ماضي المسلمين تمهيداً لتيئيسهم من مستقبلهم! ويدغدغ عواطفهم بالحديث عن تفوُّق شريعتهم ودولتهم خلال اثنيْ عشر قرنا قبل العصور الحديثة تمهيدا للقول إنه لا أمل في بناء أي شيء من هذه الشريعة الإسلامية وهذه الدولة الإسلامية في الزمن الآتي!! وهو يردُّ على المستشرقين في دعواهم انتحال الأحاديث النبوية الموجودة في مصادر السنة الصحيحة، ثم ينتهي بتبنيِّ موقفهم، والادِّعاء أنه لا يختلف عن موقف علماء المسلمين الذين يعتبرون أحاديث الآحاد ظنية!
ويكفي كتاب “الدولة المستحيلة” دليلا على هذه الطريقة الملتوية، فبدلا من أن يواجه صاحبه المسلمين برأيه الصريح في الإسلام كدين ذي طبيعة سياسية، فيقبل ذلك انسجاما مع اعتقاد غالبية المسلمين، أو يرفضه بصراحة كما يفعل العديد من العلمانيين، يلف ويدور في دروب متعرجة ليقول لهم إن الدولة الإسلامية مستحيلة، لا بسبب الإسلام كدين، ولا بسبب الدولة الإسلامية في ذاتها، بل بسبب “الحداثة”، رغم أن الشريعة تتفوق على كل حداثة، ولكن ذاك أمرٌ أصبح من الماضي، فلا تفكروا فيه في الحاضر أو المستقبل!! كما يلفُّ حلاق ويدور في سفْره الضخم عن “الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات” -وفي كتب أخرى- لينتهي إلى أن الشريعة لا يمكن تقنينها، ولا تصلح قانونا للدولة الحديثة، ويطعن في كل من سعى -أو يسعى- لذلك، بمن فيهم كبار المصلحين المسلمين في القرن العشرين، وذلك بعد أن يملأ الكتاب ثناءً عطِراً على الشريعة في القرون الخوالي!
فخلاصة كتاب “الدولة المستحيلة” ومِن قبْله كتاب “الشريعة: النظرية والتطبيق والتحولات” ثناءٌ مفتعل على الماضي الإسلامي، وتيئيس جازمٌ من المستقبل الإسلامي. وهو أمر يحقق وظيفتين:
– أولاهما: تخدير القارئ المسلم بالحديث عن أمجاد الماضي، خصوصا إذا كان القارئ ضعيف الحصانة النفسية والفكرية، يطرب للرد على المستشرقين، ويسعى إلى “التغلب على مركَّب النقص بحقنة اعتزازٍ يعلِّل بها النفس” حسب تعبير مالك بن نبي (مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، 11).
– والثانية: الاستعانة بذلك المخدِّر لإقناع القراء المسلمين باليأس من أي خروج من أزمتهم بأي طريقة تستلهم قيم الإسلام السياسية وتشريعاته.
وكان الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي من أوائل من أدركوا مخاطر هذا المخدِّر في كتابات وائل حلاق، فأشار إلى أن حلاق “قد زَّين أطروحته بمغازلة الكبرياء الإسلامية، فمجَّد الماضي، وادَّعى أنه كان على أفضل حال، بل وقد أضاف إليه إبراز مزاياه الخلُقية التي يدَّعي أنها غائبة في العصر الحديث، بالقياس إلى ما يزعمه من مزايا كانت للإسلام، لكنها لم تعد مناسبة للعصر.” (المرزوقي: “هل صحيح ألا مستقبل لدولة الإسلام؟ هل هي مستحيلة فعلا؟”).
وقد لاحظ اثنان من أبرع نُقَّاد حلاق وأكبر الباحثين في التشريع الإسلامي -وهما الأستاذان بجامعة تورنتو الكندية: محمد فاضل وإيمون أنفر- نبرة التثبيط السائدة في كتابات حلاق عن الإسلام كلما لامس قضايا الحاضر والمستقبل. فهل تواترُ هذا التثبيط بطريقة ملتوية في كتابات حلاق عن حاضر الإسلام ومستقبله مجردُ صدفة، أم هو جزء من تلك “الشروط الأساسية للفاعلية الإقناعية” التي يتقنها حلاق جيداً، ويجهلها الشباب العرب الأغرار؟!