أبو يعرب المرزوقي
بينت أمس أن جبهات الانقاذ التي عرفتها بلاد العرب عامة وتونس خاصة مشاريع مشبوهة لإنقاذ أنظمة الاستبداد والفساد من كل سعي لاسترجاع السيادة.
وقد بينت أنها في تونس مرت بأربع مراحل:
• اثنتان في عهد بورقيبة.
• واثنتان في عهد ابن علي.
• والخامسة هي الجارية حاليا.
وكلها لمنع سيادة الشعب.
فعهد بورقيبة بدأ بإنقاذ عاشور وانتهى بإنقاذ بن علي.
وعهد بن علي بدأ بإنقاذ جعل شاهد الزور الأول رئيسا وانتهى بإنقاذ شاهد الزور الثاني.
وإذن فثورة الشباب التي خانها الجميع تعيش في ظل نظام أسوأ من نظام بن علي وبورقيبة لأن المافيات التي كوناها تستفيد من فقدان الثورة للقيادة.
جبهة الإنقاذ الحالية -الخامسة- تبحث عن قيادة للثورة المضادة ظنا أن النهضة يمكن أن تستفيد قبلها من غياب القيادة الثورية لما لها من انضباط.
وقد يغري ذلك النهضة فتتوهم القدرة على هذه المهمة وتتناسى الشرطين اللذين حذرت منهما من البداية: مقومي السياسة السابقة الداخلية والخارجية.
• فداخليا لن يسمح لها بالحكم ما لم تقبل مواصلة الارتهان للتبعية الاقتصادية والثقافية.
• وخارجيا لن يسمح لها بالحكم ما لم تقبل التطبيع مع إسرائيل.
يضاف إليه أن التجربة الأولى التي غامر بعض العلمانيين مشاركتها في الحكم فيها كانت فاشلة لأنها لم تقويهما بل قضت عليهما بقصر نظر زادت في عزلتها.
كما أن ضيق الأفق في صوغ دستور من جنس اللاهوت السلبي كل ما فيه يتحدد بالسلب فلا هو علماني ولا هو إسلامي ولا هو برلماني ولا هو رئاسي -دستور “مرقة صفاقسية” كل شيء ولا شيء- ولد نظاما سياسيا كسيحا وتفتيتا ترابيا بلا مركزية في دولة اقل من بلدية ستضاعف كلفة الإدارة فيها وهذا فوق طاقة بلاد مفلسة.
وإذن فينبغي الاعتراف بأن البلاد فعلا بحاجة إلى جبهة إنقاذ من هذه الأدواء، وأولها فك العزلة عن الإسلاميين بمصالحة حلفائها في التجربة الأولى.
وينبغي أن تكون جبهة الإنقاذ جبهة ذات برنامج محدد:
إصلاح الدستور فتونس ليست بريطانيا لتكون ذات نظام برلماني ولا هي الصين لتحتاج للامركزية.
وسكان تونس أقل من نصف القاهرة لكنها نهبة لـمائة وأربعين “نيش” لمن سماهم أحد ممولي بعضها كلابا سائبة مقابل كلاب سائبة.
من يصدق أن ذلك ولاء للوطن؟
فإذا لم نتدارك هذه الأخطاء فستبقى ثورة الشباب بلا قيادة يتناهبها من نراهم يغرقون البلاد في المعارك الجانبية خطة غير مكلفة للثورة المضادة.
سيعاب علي المضمر أكثر من الصريح في هذا الكلام.
لذلك فلأعلنه:
الثورة المضادة لا تحارب النهضة لذاتها بل لأنها ترى فيها قابلية ما لسد الفراغ. فهي التي ترشحها للقيادة حتى وإن كان لا شيء يثبت هذه الفرضية لأن الأمر لا يقاس بالعدد ولا بالانضباط بل بشروط تاريخية لعلها دولية قبل كل شيء.
فالنهضة في تونس ليست أكبر عددا ولا انضباطا من الاخوان في مصر.
لذلك فلن يعيي الثورة المضادة تحقيق ما حققته في مصر بانقلاب ليس دمويا بالضرورة.
وما سياسة التعفين الجارية إلا لجعل ذلك يبدو طبيعيا عند الحاجة إليه.
لذلك ففشل جبهة الانقاذ الحالية الذي هو شبه أكيد يمكن أن يكون مقدمة له.
ومن ثم فإذا لم يتم تدارك ما كان ينبغي تداركه في التجربة الأولى فإن ثورة الشباب ستبقى دون قيادة وينفرط عقدها لكثرة الزعامات والكابورالات.
واطمئنان قيادات أكبر حزب تصرح جبهة الانقاذ الحالية والجبهة الشعبية وحتى الناقمين من أصحاب التجربة الأولى مع النهضة اعتبره تخديرا ذاتيا.
ذلك أن خطة الستريب تيز الإيديولوجية لم تقنع أحدا وهي لن تجعل الإسلاميين ذوي جاذبية ما لم يكن للسياسي دلالته الفعلية في المرجعية الفزاعة.
فالمرجعية صارت فزاعة لأنها استعملت بصورة أفسدت السياسي والدين في آن.
فالتعامل مع علاقتهما بالتمانع دليل عدم فهم طبيعة الجمع الجذاب بينهما.
فإذا لم يكن السياسي مجال الأدوات والديني مجال الغايات أصبح السياسي حشريا في العبادات والديني في الخدمات ففقد كل منهما دوره في المهمات.
وبذلك لا يبقى للأحزاب الإسلامية من فاعلية رمزية إلا في العبادات لكأن سياسة الإسلام تقلب العلاقة بين الدنيا والآخرة فتجعل هذه في خدمة تلك.
فبدلا من جعل النجاح الدنيوي -الاستعمار في الارض- أداة ترغيب في النجاح الأخروي -الاستخلاف- تعكس الحركات الإسلامية فتتحول إلى كنسية مقيتة.
فمعيار ما يجري في السرائر والإيمان لا يعلمه إلا الله.
والمعيار الوحيد للسياسة حتى في عهد الراشدين هو تحقيق أفضل شروط الاستعمار في الارض.
أما وصل ذلك بالمعيار الباطن فهو ليس من مهام السياسة بل من مهام التربية بصنفيها النظامي في المنظومة التعليمة واللانظامي في المجتمع الاهلي.
وهذا لا يسمى فصلا بين السياسي والدعوي.
فما من سياسي إلا وله دعوي يخصه أي سعي لنشر خيارات السياسة أيا كانت مرجعيتها المتعينة في غاياتها.
والغايات دائما قيمية بسند الحجة العقلية أو العظة الدينية.
وفي السياسة يمكن للعظة الدينية أن تتوسط الحجة العقلية التي تعود إلى المصلحية.
ذلك أن ما يعني الناخب ليست العظة الدينية بل المصلحة الدنيوية.
وطبعا لن يخفى عنه أنه يعتبر تلك زيادة خير لكنه لن يرضى بها بديلا من مصلحته.
ومن ثم فالمرجعية إذا كانت دينية فينبغي أن تترجم في الاستراتيجية السياسية إلى ثمرة الغايات الدينية من مصالح دنيوية لتطور الجماعة التاريخي.
ليس من وظيفة الأحزاب أن تتحول إلى حركة دعوة للقيام بالفرائض التعبدية بل وظيفتها أن تحقق بعملها وسلوكها ما يلزم عن التقوى في المعاملات.
عندئذ يمكن للإسلاميين أن يصبح لهم برنامج سياسي جذاب.
أما خطة الإخوان بالخدمات فهي رشوة تجعل الجماعة عالة على الصدقة بدل الإبداع والإنتاج.
والرشوة تولد التنافس على شراء الضمائر. فيكون الجذب لمن يدفع أكثر.
وتكون الثورة المضادة الأقدر لأن الانظمة العميلة تمولها والاستعمار يسندها.
والسياسة لا تحتاج لفقيه ولا لمفتي ولا لخطيب جمعة بل لعالم في الاقتصاد والسياسة وتنظيم الحياة وقيادة الاستعمار في الأرض رعاية وحماية للجماعة.
ولا نحتاج لفتاوى حول التوفيق بين الإسلام والديموقراطية كما لم تحتجه المسيحية الديموقراطية.
فيكفي بيان ذلك في السلوك والتنمية الجامعة بينهما.
كل الخطاب التقليدي والتبريري لم يعد ضروريا في الجمع بين السياسي والديني لأنه في السياسي ليس التعبدي إنه المعاملاتي بقيم حقوق الإنسان.
كل ما عدا ذلك دجل وخطاب لا يغير من السلوك.
لما كان المسلمون مسلمين بحق كان سلوكهم كافيا لأن تسلم قارات وشعوب دون حروب كما في جنوب شرق آسيا.
أما ولم يبق من الإسلام إلا الكلام فإن كثرته لن تزيد الناس إلا هروبا خاصة والذين يدعون التأصيل هم أكثر الناس تشويها للدين حربا على الرسالة.
ليس الشعب التونسي بحاجة للتأصيل ولا للتحديث فكلا الصفين بهذه الشعارات هم مصدر حرب أهلية هي حرب بين كاريكاتورين من النقل والعقل في آن.
إذا حصل وأصبحت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية جذابة دون حاجة للمبالغة في استغلال الدعوة والرشوة أمكن لنا أن نمر لشروط التنافس الأهم.
سمعت اليوم حمة الحمامي من الجبهة الشعبية ورئيس الحزب الاشتراكي في جبهة الانقاذ الخامسة يدعون فقدان النهضة للعلماء والفنانين والمفكرين.
من يسمع مثل هذا الخطاب الذي يتردد كثيرا عند أدعياء الحداثة يتصورهم أحزابا تعج بالعلماء والفنانين والمفكرين.
والجميع يعلم من يمثلون ذلك لديهم.
فمجرد كلامهم هذا استنادا إلى ما عندهم يعني أنهم لا يفهمون معنى علماء وفنانين ومفكرين.
فعلماؤهم خرافون وفنانوهم زطالون ومفكروهم مشعوذون.
وليس لهم ما يذكر في هذه المجالات إلا ما يعود إلى أهم جامعة قتلتها حداثتهم.
فتحرير المرأة وتأسيس النقابة والرياضة وحتى الاحزاب كلها زيتونية.
واليوم لو قارنت أي حزب يدعي الحداثة بأي حزب يتهم بالرجعية من الإسلاميين لوجدت أن الاخير أفضل ألف مرة من الأول من حيث تكوين الإنسان الحديث.
مشكلهم أنهم مازالوا يتصورون الإسلاميين كما كانوا لما تخرجت أول دفعة من المبتعثين كما فعل جيل بورقيبة.
الآن الإسلاميون هم الحداثيون.
فإذا ابتعدنا على إيديولوجية الحداثة وتكلمنا على شروطها العلمية والتقنية والانضباط الخلقي والسلوكي لبناء الحضارة وجدنا ذلك بين الإسلاميين.
ما عند الحداثيين العرب هو مبتذلات نمط العيش الغربي من دون شروطه:
هي محاكاة قردية لبذخ مقابل شروط الحرية والكرامة ليرضى عنهم مستعبدهم.
مافيـــــة الإنقاذ – القسم الأول
الكتيب : http://pubhtml5.com/tyji/