في مراتعُ السُّحْت… حول ظاهرة برهان بسيّس
1. بعد ذلك الانفعال المرضي الذي بدا عليه برهان بسيس، وبعد ذلك الهذيان المسرف الذي استُدرج إليه في برنامج ليلة الأحد 26 مارس 2017، وقد مرّ أسبوع على انتسابه إلى حزب نداء تونس، سقطت سقوطا مدويا تلك الصورة التي أنفق الرجل جهودا مضنية في ترميمها من خلال الشاشات وبذل وسعه في تحسينها بمحاورة المناضلين والسياسيين وقد سعى إلى أن يظهر فيها في مظهر الزاهد الحكيم.. لقد انكشف زيف الصورة ليلة البارحة وظهر جليّا أنّ الزيف حبل قصير وأنّه ليس يسع الزائفين أن يتسمرّوا في احتيالهم على الكافّة لأنهم واقعون في شرّ ما اكتسبوا لا محالة.. وهذا المعنى يرقى إلى أن يكون قانونا رغم ما يبدو من كثافة الزيف وكثرة الزائفين وتنوّع حيلهم. التي ينقبض لها كثير من الصادقين…
2. ليس من السهل على القديم أن يستحيل إلى جديد لأنّه قد استهلك نفسه.. وليس بوسعه أن يعيش غير لحظته.. فالماضي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يخرج عن مدار التغيّر الذي يصيب كلّ شيء فيكون أبديّا.. وبرهان بسيس قديم وإن لبس ثوبا جديدا ووضع من المساحيق ما يمكن أن ينطليَ على بعض الناس.. والجديد لا يناسبه ولا يسعه ولا يوافق جبلّته.. وقد استهلك نفسه وأهلك وسعه قبل الثورة حتى قامت عليه الثورة كما قامت على الأبواق المشابهة.. غير أنّ الأبواق لا ترعوي…
3. لمّا استبدّ الخوف ببرهان بسيس عاش لحظة وعي عابرة.. وقد صرّح وقتها قائلا: (مرحلة برهان بسيس انتهت.. برهان بسيس مشى.. ولن تجدني.. سأطمئنك.. سأطمئنك وأطمئن الذين يستمعون إليك.. لن يكون لي أي ساق نحطّها لا في سياسة ولا في إعلام”.. وختم بقوله آنذاك “كان نهار آخر تلقاني نفسّر في حاجة اطلق عليّ النار).. ثمّ ما لبث أن بُعث من جديد فعاد إلى الشاشة ينشر نفسه على الناس في مظهر أشبه بثوب مستعمَل على حبل غسيل، وهو لا يدري أنّه ببهلوانياته إنّما يصوّب النار بنفسه إلى نفسه كأنّه يختار الانتحار بمزيد الانحدار.. فمثله كمثل الحشرة التي تنجذب لا إراديا إلى الضوء وهي لا تدري أن فيه موتها.. وقتها كان “أوعى” ما يكون و”أصدق” ما يكون.. وقد ذكر مفردة الطمأنينة أكثر من مرّة لأنه كان يدري أنّ ظهوره غير مطمئن لكلّ من انتصر للثورة واحتفل بسقوط رأس النظام.. لقد كانت عودته إلى الأضواء مريبة فعلا ولكنه كان يراهن على النسيان.. واجتهد في تغيير توقيع خطوه القديم وتصنّع غير مشيته ولكنّ الطبع يغلب التطبّع…
4. لقد أذهب برهان بسيّس كل ما كان تصنّعه من العزم بعودته إلى الإعلام والسياسة كليهما.. ولم يكن يملك ألّا يعودَ.. لأنّ ما أكله من موائد الظلم مَانِعُهُ من أن ينأى بنفسه فيتطهّر من دنسه المُلَابِس.. لقد تشكّل كيانه الجسماني كما تشكّلت روحه من مفردات السُّحْتِ.. ويظهر السحت في برهان بسيس من جهتين: جهة كونه قد رتع في مراتع الظلم وأكل من موائده حتى التخمة.. والظلم مرتعه وخيم.. والظالم متى أطعم تابعا لم يطعمه إلّا كلَّ حَرَامٍ قَبِيحِ الذِّكر، ولم يكن كسبُ الطاعم من طعامه سوى مَا خَبُثَ مِنَ المَكاسب فلَزِمَ عَنْهُ العارُ.. ومن تلوّث دمه بالخبائث استعصى شفاء روحه من أدوائها إذ “لا يشبعُ مَنْ رُوحُهُ الجوعُ”… وإنّه ليس يقع للظالم فيرضى بالأكل منه إلّا رَجُلٌ مَسْحُوتٌ.. والمَسْحوتُ هو واسعُ الْجَوْفِ الجائعُ الذي لَا يَشْبَعُ.. والسَّحْتُ هو شِدَّةُ الأَكْل والشُّرْب.. أمّا الجهة الثانية التي يظهر فيها السحت فهي جهة البضاعة المزجاة التي يروّجها برهان بسيّس، وهي بضاعة قديمة لم تتغيّر ولكن تغيّر المستفيدون منها.. ولقد أَسْحَتَتْ تجارة الرجل بمعنى خَبُثَتْ.. وقد سَحَتَ فِيها وأَسْحَتَ أي اكْتَسَبَ السُّحْتَ.. ومن تشرّبت روحه السحت لم يأمن الفضيحة والسقوط ولو بعد حين.. وها قد سعى الرجل بقدميه إلى نهايته وهو يحسب أنّه قد نُقّيَ من دنسه الذي كان عَلِقَهُ فتحوّل إلى ساحر عليم بالحلول قادر على المستحيل.. ولأجل ذلك انتدبه حزب النداء كما انتدب سمير العبيدي آخر الخرق التي كان بن علي يستتر بها قبل الهروب…
5. لقد بدا برهان بسيّس البارحة عاريا قد فقد كلّ ما كان يبدو من قدراته.. وتصدّعت دفاعاته وضعفت قدراته الحجاجيّة.. وظهر منفعلا لا يملك زمام أمره.. ولمّا افترسه الاضطراب صار أشبه ببخيل الجاحظ الذي “إذا أكل، ذهب عقله، وجحظت عينه.. وسكر، وسدر.. وانبهر وتربّد وجهه.. وعصب ولم يسمع، ولم يبصر”…
6. برهان بسيّس قد تجاوز صلوحيته وصار علامة على النهاية ومؤشّرا دالّا على السقوط.. ولن يكون انتدابه ضمن فريق قيادة نداء تونس سوى توقيع محترف على سقوط للحزب لا قيامة له بعده.. وإن غدا لناظره قريب…