الوجه الآخر للمدن التي زرتها (2)
1. روما (إيطاليا)
عند مغادرتي مطار روما وتوجهي نحو نزل بوسط المدينة جذبني ذلك الزخم الهائل من الآثار المتناثرة هنا وهناك فأيقنت أن بضعة أيام لن تكفيني لاستكشاف حضارة موغلة في القدم. في يومي الأول بها سحرني المعمار بخصوصياته وزركشاته ومنحوتاته وذلك الكم الكثيف من التماثيل الرامزة لشخصيات تاريخية وأسطورية، عندما سقط نظري عن بعد على مبنى “الكوليسيوم” (COLOSSEUM) الذي أنشئ بين عامي 70 و 72 بعد الميلاد وصلتني أصوات المصارعين وصراخ الجمهور وتراقصت أمامي مشاهد القتال في العهد الروماني أصوات تتعالى كلما اقتربت من المبنى لعلها منبعثة من أعمدته الشاهدة على حقبة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية لأكتشف عند الدخول خلو المكان وغياب مصادر الأصوات التي رحلت برحيل الجمهور والمصارعين وبقي المبنى قائما يصارع الزمن ولا يسقط محققا صدق الأسطورة القديمة القائلة “مادام الكوليسيوم قائما ستبقى روما قائمة ومتى تسقط روما يسقط العالم بأسره”.
عاد بي خيالي وأنا أتنقل داخل المبنى إلى مدينة الجم ببلدي وقصرها المماثل “كوليسيوم تونس” أين يصارع الإنسان الوحوش ومعارك المصارعين الدّامية وسباقات العربات، نفس الشكل تقريبا مع فارق في الحجم، نفس الأصوات تبعثها الجدران والأعمدة والمدارج لصراع وحشي يصفق له “النبلاء” الرومانيون لفوز هذا المصارع وهو يهدر دم الآخر أو انبهار الجمهور بمصارع غلب “وحشا” من الوحوش أو كان مزقه الوحش ليكون غذاؤه من لحمه، كل ذلك ليسعد الإمبراطور.
“كوليسيوم تونس” انقلبت فيه الأصوات إلى سنفونيات عالمية أو موسيقى الجاز الدولية بجمهور غير جمهوره القديم وبذلك أيقنت أنه بالفن يُصنعُ الإنسان. حاولت قدر المستطاع ملء نظري بالآثار من تماثيل ومعابد ونافورات وكنائس ومعرفة أسرارها على لسان الدّليلة السياحية بلكنتها الإيطالية وهي تنطق الـR “راء” طليقة كما أنطقها عندما أتكلم باللغة الفرنسية على طريقة “بافاروتي” الذي يصلك صوته من حيث لا تدري قويا هادرا فيجعلك ترى التماثيل تتراقص أمامك فرحا بقدومك.
أكثر المباني التي زرتها هي الكنائس وتأثرت حد البكاء بتلك التي كانت مساجد وتحولت إلى كنائس لم تفقد في طابعها المعماري الهندسة الإسلامية والزركشات الأندلسية عندما وجدتي صدفة أمام أحد المساجد مسحت آخر الدموع على أرضيته وعدت للتأهب لزيارة الفاتيكان.
2. الفاتيكان
مدينة الفاتيكان أو دولة مدينة الفاتيكان (Stato della Città del Vaticanoo) أصغر دولة من حيث المساحة وعدد السكان في العالم تتواجد في قلب مدينة روما التي تحيط بها من جميع الاتجاهات ويفصلها عنها أسوار خاصة، أسوار لم تمنعني كزائرة عربية مسلمة من التجول فيها والصلاة في زاوية خصصتها لي إحدى الراهبات الشرقيات من أصول لبنانية بعد أن تخيرت لي مكانا لا توجد فيه تماثيل دون طلب لأكتشف في ما بعد أن معرفتها بالدين الإسلامي قد تفوق معرفة بعض المسلمين. “ماريا” الكاثوليكية التي تتحدث بلغة “الكرسي الرسولي” (اللاتينية) والإسبانية والإيطالية والبرتغالية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية كان حديثها ممتعا جذبها حجابي الأسود الذي جعلني أبدو لها في بادئ الأمر “راهبة” لم يتغير أسلوبها معي لما أعلمتها أني مسلمة وأهدتني كتابا تبشيريا وسلمتها “كتابي” الذي قبّلت قداسته حينما لاحظت أني لم أجاملها بتقبيل هديتها أسرعت بالتبرير لي “كتابي تفسيري لرسائل المسيح لا غير” “ألن تقابلي البابا ؟؟ هو موعد زيارته اليوم” أحرجني سؤالها إذ كيف لي أن أقف أمام البابا ليقول لي مثلما يفعل للزائرين “اذهبي فأنت مغفور لك” ؟؟ كيف سأتهرب من سؤالها دون أن أجرحها وقد أكرمتْ وفادتي ؟؟ بادرتني قبل أن أجد سبيلا للتفصي “لا عليك هيا لنأكل البيتزا” “نعم هيا لنأكل البيتزا”.
“Comme est beau votre islam Maha”
كانت جملتها الأخيرة بعد حديث مطول وضحك مسترسل وهي تودّعني عند مدخل الكاتدرائية، جملة بقيت عالقة في ذهني لم أعرف سبب قولها هذا إلى اليوم فلم أتصرف معها بنفس المجاملة، كل ما في الأمر أني حافظت في لقائي بها على تلقائيتي وصدقي رغم الاختلاف، “كم هو جميل إسلامك مها” تلك الجملة هزّتني بعمق وظلت ترن في أذني سرقتني من واقعي لتحلق بي بعيدا إلى أن أفقت ذات صباح وأنا بمدينة فلورنسا (Firenze).. وقد سُرقت.
3. فلورنسا
فلورنسا: فلورنسا (Firenzee) المحاطة بثلاث تلال طينية لم تحطني بعنايتها مثل روما، أفقت ذات صباح باكر وأنا بنزل لندرا (Londra) بعد أن وضعت حقيبتي اليدوية على ظهر الكرسي بالمطعم وتوجهت لأخذ قهوتي اكتشفت لما عدت لمكاني أنها ليست موجودة، اعتقدت في بادئ الأمر أن أحد رفاقي في الرحلة أخذها للمزاح لأتيقن فيما بعد أنها سُرقت، مدير النزل عند إخباره بادر بإعلام الأمن الذي حضر بسرعة.. “يتعرض النزلاء لسرقات مشابهة من قبل عصابات مجهولة يُرجح أنهم من المهاجرين الغير شرعيين”.. المهاجرون غير الشرعيون أغلبهم أبناء وطني، جملة استنكرتها وطلبت مشاهدة تسجيلات كاميرات النزل، إلقاء الاتهام على أبناء شمال إفريقيا منهم أبناؤنا “الحارقين” استفزني وأغضبني وأوجعني، كتمت غيضي وأصررت على مشاهدة ما سُجل لدى أمن النزل.. عند وقوفنا للمشاهدة كانت دقات قلبي متسارعة لا لأني فقدت جواز سفري وأموالي وعدة أغراض شخصية وإنما خشية أن تصدق هواجس مدير النزل فتلحقني الخيبة.. كانت المُفاجأة بالنسبة لي أهون مما خسرت.. “السارق” صاحب العيون الخضر والشعر الأشقر والوجه الأحمر البدين الذي تبدو عليه مظاهر الثراء كان قد وضع جمازته الزرقاء على حقيبتي فوق الكرسي متظاهرا بملء كأس قهوة ثم يرجع ليأخذها ومعها الحقيبة، بكل أريحية قبل أن يُغادر النزل.. شعوري بالراحة والانتصار ترجمته نظرتي إلى مدير النزل “لم يكن شمال إفريقي يا سيدي، هذه ملامح رجل أوروبي يرجح أن يكون إيطاليا، العيون الخضر من سماتكم..”. تغيُر لون وجهه جعل من عين المدير تبدو أكثر اخضرارا.. قطع الأمني صمته “توصلنا لمعرفة وجه أحد رجال عصابات المافيا التي تخصصت في السرقة من داخل النزل بفضلك سيدتي”.. في مركز الشرطة تمت كتابة المحضر في الحين ومدّي بنسخة منه، وكان الوقت ضيقا للرجوع إلى روما حيث مقر القنصلية التونسية بقصد استخراج بطاقة العبور الوقتية..
استقللت القطار السريع رفقة زوجي لقطع مسافة طويلة.. قد أصل وأبواب المكتب قد أغلقت لانتهاء الوقت الإداري خاصة، ويوم الغد يوم عطلة 20 مارس، فما العمل ورفاقي يتحضرون للسفر لفينيسيا والطائرة لن تنتظرنا.. بدت المسافة طويلة جدا رغم سرعة القطار الهائلة.. ونحن نتوجه إلى المجهول ونضع جميع الفرضيات، كان بعض رفاقنا يتصلون بنا للاطمئنان إن كنا وصلنا”.. “لا تخافي ما دمنا معا”.. كانت جملة زوجي المطمئنة يُرددها طيلة المسافة.. لم أكن خائفة فعلا.. كان خوفي الأكبر أن أفسد رحلة رفاقي، فمنهم من رفض التنقل لفينيسيا قبل رجوعنا.. في خضم الهواجس والظنون جاءنا اتصال من رقم مغاير لرفيقنا “أنيس” الذي كان يتصل طوال الوقت.. اعتقدنا أنه رقم لزميل آخر، “معك محمد فيصل بن مصطفى قنصل تونس بروما، نحن في انتظاركم”.. نزلت كلماته علينا بردا وسلاما.. لم نكن ندري أن رفيقنا ( Anis Ezzine) اتصل بالكاتب العام للهيئة الوطنية للمحامين بتونس الأستاذ بوبكر بالثابت (Boubaker Bethabet) الذي اتصل بدوره بالقنصلية وأرسل جميع وثائقي المطلوبة لاستخراج رخصة المرور من ملفي المهني بكتابة الهيئة.. كان في انتظارنا رغم انتهاء الوقت الإداري وخصص لنا سيارته الدبلوماسية ورافقنا إلى محطة المترو للعودة إلى فلورنسا بعد أن أهدانا “دقلة النور”.. وصلنا المدينة في الوقت الذي كانت الحافلة تتأهب فيه لنقلنا وبقية الرفاق للمطار في إتجاه فينيسيا..
4. فينيسيا
“البندقية” كما سماها العرب، “المدينة الحالمة التي بناها العشاق” كما وصفها “لويجي بارزيني”، “الجزر العائمة” أو “مدينة الجسور” كما سماها الفرنسيون. تطل عليك كلوحات فنية مزركشة بألوان الحياة المبهجة تأخذك عبر جسورها المطلة على مياه زرقاء بهية كمعابر أنهج حيّ شرقي عتيق تقطعه راكبا “الجندول” (Gondola) لا يقوده سوى بحار محنك يكون دليلك السياحي.
كنائسها الكاثوليكية ذات الطابع الشرقي يشهد للمدينة انصهارها عبر التاريخ بثقافات مختلفة منها الثقافة الإسلامية، كما استقر فيها أناس من مختلف بقاع العالم وقد شهدت في السنوات الأخيرة افتتاح أول مسجد فى تاريخها، ليصبح بإمكان سكانها وزوارها من المسلمين أداء الصلاة فيه دون الحاجة لرحلة مدتها ساعة إلى مدينة فينتو.
وقفت مطولا أمام جسر “التنهدات” ظننتها للعشاق فتبين أنه كان يمر به السجناء للعبور من قصر العدالة إلى السجن فيتملكك الشعور بوجع التاريخ، بين أحضان مطاعمها المنتشرة على ضفاف مياهها تتذوق طعم وجباتها البحرية والبيتزا العملاقة كطفل مفطوم عن الحليب يستكشف مذاق الأكل لأول مرّة. تحيطك الزرقة من كل جانب تتوه ولا تدري هل السماء تحت ناظريك أم البحر صعد إلى الأعلى. مدينة بلون السماء الشاسعة والبحر المحير لقلوب العاشقين تهمس لك قصة روميو مع جولييت يساهرك الليل ويروي لك حكاية عشقه في فيرون لعله كان وقف على جسر العشاق يُناجي حبيبته.
فينيسيا مدينة تُجبرك على حبها ولا تستطيع غير أن تعشقها بصدق كامرأة أربعينية عاشقة تحميك من صخب الحياة وضجيج الروح تأخذك إلى اللاواقع كخرافة تبدد بها عوالق الداخل كقصة عشق شرقية جميلة تمحي جراحات السنين ستقول لها كما قال نزار “حُبك خارطتي وما عادت خارطة العالم تعنيني”..
حدث حينها أن أنستني فينيسا حادثة فلورنسا.