عدد من شباب المناطق الداخلية لا تكتمل فرحتهم بالنجاح في الباكالوريا إلاّ حين يقع توجيههم إلى إحدى الجامعات بالعاصمة… لا تهمّ الشعبة ولا الكلية ولا مصاعب الدراسة ولا ظروف السكن.
هم يحلمون بالهروب بعيدا حيث شارع الحبيب بورقيبة وسيدي بوسعيد وفيراجات دولة الإفريقي… يحلمون بالجلوس في المقهى والتدخين دون رقابة (الأهل) ويحلمون بالحديث دون صنصرة (الكبار) يحلمون بممارسة التفكير دون إقصاء (الشيوخة) يحلمون بمشاهدة فلم بإحدى قاعات السينما دون خوف من المداهمات (الوالدة)… يحلمون بممارسة طقوس الحبّ خارج أقبية المعابد (المجتمع المحلّي)…
يحلمون بشمس العاصمة وهواء العاصمة وأمطار العاصمة والحبّ في شوارع العاصمة… يحلمون بممارسة نمط عيش “جماعة العاصمة”… الباكالوريا تعني لهم “الفلوكة” التي سيحرقون على متنها إلى الضفة المُقابلة.
نصف هؤلاء الشباب يموت غرقا في شوارع العاصمة وتبتلعه الحيتان الكبيرة… والنصف الثاني يعود أدراجه يجرّ خيبته مُحمّلا المنظومة وزر فشله الدراسي. فيعيش الإحباط والبطالة وقد يُقرّر “الحرقة” لكن هذه المرّة نحو البحر أو نحو الجبل…
الفئة الناجية قليلة… ولن تعود أدراجها نحو بلد المنشأ.
__________
بعث الجامعات بالمناطق الداخلية والحدّ من “مركزية” التعليم العالي لا يُمثّل الحلّ الأمثل… ولكن إعادة النظر في مناويل التنمية والحدّ من اللاّعدالة في توزيع الثروة بين المركز والأطراف وتوفير فضاءات عمومية يُمارس في إطارها الشباب “حياتهم”: دور السينما والنوادي الثقافية والإذاعات المحلية والملاعب الرياضية والمُنتزهات ووسائل النقل العمومي. والتقليص من اللاّتكافئ في فرص “التعلّم والرفاه والعمل” بين سكّان المدن الساحلية وسكّان المناطق الداخلية… هذا لن يتحقّق إلاّ بالحدّ من مركزية القرار ومركزية التخطيط ومركزية التنفيذ وخاصة الحدّ من احتكار ممارسة “الحياة”.
__________
متى نفهم أنّ الوطن يغرق… وأنّ الشباب يحترق. وأنّ الترجّي دولة والإفريقي دولة والصفاقسي دولة والساحلي دولة وقريبا بن قردان والجرجيسي إمارتين داخل الدولة.