لو حاولنا استكشاف البنية العميقة للخطابات الحداثية المهيمنة على تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، لوجدنا أنفسنا أمام مجموعة من الأنساق الحجاجية التي قد يرعبنا مقدار التشابه الخفي بينها وبين خطابات “الإسلام السياسي”، في صوره الأكثر اختزالية واستعلائية وادعاءا لاحتكار الحقيقة، وهو ما يعني أنّ الأغلب الأعم من الخطابات الحداثية قد حافظت في بنيتها العميقة على جذر ما قبل مواطني، يجعلها غير قادرة على إدارة الاختلاف الجذري خارج مقولات الإقصاء والنفي. وهو ما يعني أن حصر ظاهرة الدوغمائية في تمظهراتها الدينية، هو ضرب من الطرح السياسوي “الاختزالي” الذي لا يصلح لأكثر من الاستهلاك الإعلامي والتحشيد الانتخابي. وقد يبدو الحديث عن نزعة تكفيرية تخترق أغلب الأنساق الحداثية التي مازالت تتعرف ذاتيا بالتناقض مع الإسلاميين، ضربا من المجاز أو من التوسّع في العبارة، الذي قد يؤذن بتمييعها وإفقادها قدرتها التفسيرية، لكن ممارسة النقد المزدوج (للخطابين الديني والعلماني)، تفترض البدء من أخذ مسافة نقدية من أنظمة التسمية المهيمنة والتشكيك في قدرتها التفسيرية الحقيقية، كما تفترض عملية النقد المزدوج التحرر من الادعاءات الذاتية للخطابات، بل التفكير ضد تلك الادعاءات بحثا عن البياضات والتناقضات والمسكوت عنه واللامفكر فيه، وما يستحيل التفكير فيه داخلها.
ينطلق هذا المقال من فرضية أساسية مفادها أنّ أغلب الأنساق الحداثية التي تحركت في سياق الدولة الاستبدادية بلحظتيها الدستورية والتجمعية (أحيانا ضد النظام أو على هامشه، وأحيانا أخرى داخل أجهزته الحزبية والدعائية والأمنية)، لم تكن تستطيع -بحكم ارتهانها لمنطق التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وبالتالي إيمانها بأولوية الصراع الثقافوي قبل الثورة وبعدها-. إلاّ أن تكون الوريث “الحداثي” للمنطق التكفيري الديني المنحدر إلينا من المجتمعات التقليدية في أحلك فترات انحطاطها، لا في فترات ازدهارها، لكنها وراثة مخاتلة وغير واعية بعد أن تمّت علمنة مفردات العدو/الأصل الديني، وتغيير رهاناته وغاياته القصوى. وهو ما يعني واقعيا أنّ كل من لا يتماهى مع أطروحاتها (حتى عندما يكون علمانيا) هو Personae non gratae أي هو شخص “غير مرغوب فيه” في جمهوريتها الواقعية أو المتخيلة على حد سواء. وسأحاول في هذا المقال توسيع دائرة النظر في مشكلة “الدوغمائية” والأنساق الإقصائية المغلقة، بعيدا عن تهويمات أولئك الذين يصرون على اختزال الخطر على الديمقراطية في النسخة التكفيرية، التي ولّدتها سياسة تجفيف منابع التدين واستراتيجيات العلمنة اليعقوبية المتطرّفة، ومآلات التنمية اللامتكافئة والتبعية الاقتصادية والاغتراب الثقافي الغالب على سياسات الدولة منذ الاستقلال.
لبيان التشابه المربك بين الخطابين الديني والعلماني في مستوى بنيتهما العميقة، يمكن أن نكتفي باستحضار واقعتين إحداهما قبل الثورة وتخص محرقة النهضويين على يدي المخلوع وحزبه “الدستوري الديمقراطي”، والثانية بعد الثورة وهي تتعلق بموقف “العائلة الديمقراطية” من “الديمقراطيين” الذين حاولوا التحرك ضد أساطير النمط، وخارج مربّع إعادة التوازن للنواة الصلبة للمنظومة الحاكمة. وسنحاول صياغة الواقعتين صياغة استفهامية، تاركين لكل قارئ الحق في بناء نتائجه الخاصة.
هل كانت كلّ الأجساد والأرواح والنفوس التي “دمّرتها ” آلة القمع الحداثية-المدنية-التقدمية في بداية التسعينيات من القرن الماضي -وقبل ذلك وبعده- مسكونة بـ”التكفير”، ومرتبطة بالعنف وخارجة عن “القانون” كي تستحقّ مقام “الأضحية”، اللازمة لتأسيس “العهد الجديد” وشبكات الولاء والزبونية المرتبطة به في كل القطاعات، أم إنّ كلّ تلك الذوات التي أُخرجت من حدّ المواطنة وحكم الإنسانية أصلا، لم تكن تستطيع أن تأخذ في “عملية التحديث التابع ” إلاّ دور “الشرّ المطلق” الذي تُسقط عليه النخبة الحاكمة والآكلين على موائدها، من أشباه المثقفين كلّ نوازعها العدوانية وإحباطاتها الانتخابية واستعلاءاتها المعرفية والوجودية؟ هل استحق النهضويون سياسة التعذيب والإقصاء الممنهَجين، الذي برّرته النخب الحداثية (أو على الأقل سكتت عنه) إلاّ لأنهم جماعة “كفرت” بالنخب الحداثية، وبكل “رأسمالهم الرمزي” وأرادوا منافستهم (بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية لا إلى منطق الولاء) على إدارة المجال العام والمشاركة في رساميله المادية والرمزية؟ هل كانت السلطة الاستبدادية (بأعوانها وحلفائها) تحتكم إلى شيء آخر غير فهمها الهولوكستي النزي الجوهر لـ”آية الحرابة” بعد أن علمنتها وعملت بـ”روحها” من غير إحالة دينية؟ هل كان الذين آمنوا بالسلطة وبمنطقها وكانوا جزءا بنيويا فيها -من اليساريين والليبراليين وممثّلي إسلام “المخزن”، أولئك المتبرجزون في عقلياتهم وصور معاشهم رغم كل ادّعاءات التقدمية والحرية والتقوى- بعيدين حقّا عن منطق التكفير وعن المحاججة “العقلانية” عن ضرورة تطبيق حكم “البغاة” والخارجين على وليّ الأمر، لكن بعد أن “نقلوا” المعجم القرآني-الفقهي إلى المعجم الحداثي التقدمي و”ترجموه” في مفاهيم “وظيفية” جديدة؟ هل شهدنا شيئا آخر غير “العبور” من سجلّ قولي وحقل دلالي تراثي إلى آخر يرتبط صوريا بالفلسفة الحديثة للدولة-الأمّة: غاب “وليّ الأمر” في “منقذ البلاد” وفي “صانع التغيير”، واختفى “البغاة” في “الظلاميين” والإرهابيين و”الخوانجية”، وحُجبت الدلالة الأصلية “للخروج على أولياء الأمور” في مفاهيم المساس بالوحدة والإجماع الوطنيَّين واختيارات الشعب التونسي التحديثية، واستعاضت النخب عن “المؤمنين” الذين يقابلون “الكافرين” بـ”الوطنيين” الذين يقابلهم “المندسّون” وخادمو الأجندات الأجنبية، وأعداء الوطن، كما واختُزلت المقدسات الدينية كلها في قدس أقداس الحداثيين، في مقولة صارت أقرب إلى المقولة الإيمانية منها إلى المصطلح القابل للضبط: النمط المجتمعي التونسي؟
بعد الثورة حاول جزء من القوى الديمقراطية (مثّلهم أساسا المؤتمر من أجل الجمهورية ثم التيار الديمقراطي والحراك وبعض الأحزاب التي رفضت منطق شيطنة الإسلاميين أو مقاطعتهم من جهة أولى، ورفضت من جهة ثانية التحرك داخل مربع 13 جانفي 2011)، حاولوا أن يمارسوا السياسة ضمن أفق مواطني حقيقي يتجاوز التصنيفات النوفمبرية التي كانت تُصنع على أعين الأجهزة الأمنية و”كلاب الحراسة الإيديولوجية”، لكن كيف عاملتهم باقي “القوى الديمقراطية؟ كيف نظر “الديمقراطيون” إلى تجربة الترويكا التي تحالفت فيها للمرة الأولى في تاريخ تونس قوى علمانية وأخرى إسلامية؟ لماذا لم يعتبر “الديمقراطيون” تلك اللحظة لحظة تقدمية في تاريخ الأفكار السياسية، ولماذا شيطنوا تجربة الترويكا التي كانت مجرد مقدمة أو تبشيرا بواقع سياسي “ما بعد استبدادي”؟ ما هي الخطيئة التي ارتكبها الرئيس المرزوقي بتحالفه مع الإسلاميين الذين جاءت بهم صناديق الاقتراع لا الانقلابات العسكرية ؟ هل خرج “الديمقراطيون” عن منطق “التكفير” (وهل التكفير إلا شكل من أشكال الإقصاء وتبرير العنف الرمزي والمادي على حد سواء؟)، عندما اعتبروا كل الممكنات السياسية التي لا تتماهى مع أطروحاتهم ممكنات “لاوطنية” أو “رجعية” آو حتى “عميلة” ؟ كيف استطاع “الديمقراطيون” اعتبار ورثة التجمع جزءا من “العائلة الديمقراطية”، والحال أنّ المواطنة لا يمكن أن تقوم وترسخ إلا بتجاوز المنطق التجمعي وشبكاته الزبونية التي تخترق مواقع القرار والتأثير كلها؟
لاشكّ أن “المثقف الحداثي” المحكوم بـ”أنظمة التسمية” التي أنتجها العقل الاستبدادي، لا يمكنه رؤية الواقع إلاّ بـ”منطق” ذلك العقل حتى عندما لا يكون جزءا بنيويا فيه. إننا أمام عائق من أهم عوائق التفكير خارج منطق “الجمهورية الأولى” ورهاناتها المكرسة لثقافة “ما دون المواطنة” و”المواطنة المشروطة”. وهو ما يفرض على النخب الحداثية -إن هي أرادت تجاوز حالة العطالة التي تعيشها- أن تشتغل هي أيضا بعملية نقد مزدوج: نقد ذاتي يحاول التحكم في ما قد يدخل الخطابات “الحداثية” من الدوغمائيات ونوازع الاستبداد الواعية واللاواعية، ونقد جذري يتوجه إلى “الإسلاميين” باعتبارهم شريكا في الوطن وفي المصير لا باعتبارهم عدوا أو حضورا “مؤقتا” في الحقل السياسي، وفي المجال العام بصفة عامة؛ إذ ليس من الثورية والعقلانية والتقدمية في شيء أن تستمرّ خطابات التخوين ومفاهيم الحرب ومنطق “التكفير المدني”، المحرّض على حرمة مئات الآلاف من المواطنين والمواطنات، في حين أنّ الرهانات الحقيقية للجمهورية الثانية -وهي رهانات مواطنية اجتماعية ترتبط بتحقيق مقومات السيادة “معا” لا بترسيخ التبعية، بتقديم بعضنا البعض قرابين للقوى الإقليمية والدولية ووكلائهم المحليين- تكاد تختفي تماما في خطابات عند من لا أجد لهم تسمية تُقرّبهم من “أناهم” السلفي “بما هو آخر” -كما يقول بول ريكور- غير اسم “التكفيريين التقدميين”.
عربي21